الأربعاء 15 يناير 2025 08:48 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الكاتب الصحفي الكبير طه خليفة يكتب : البروفيسور محمد يونس ..والأمير طلال بن عبدالعزيز

الكاتب الصحفي الكبير طه خليفة
الكاتب الصحفي الكبير طه خليفة

ما هو الرابط بين هاتين الشخصيتين المعروفتين، متع الله الأول بالصحة، ورحم الثاني؟.
محمد يونس (84 سنة) هو الاقتصادي والمصرفي البنجلاديشي البارز وطنياً وعالمياً، والثاني كان أحد أهم أمراء الأسرة الحاكمة بالسعودية عقلاً وفكراً وثقافة واستنارة ورؤى سياسية وإصلاحية، وقد توفي في ديسمبر 2018، عن عمر ناهز 87 عاماً.
يونس ازداد اسمه لمعاناً بعد أن اختاره طلاب بلاده الذين اسقطوا رئيسة الحكومة الديكتاتورة حسينة واجد في انتفاضة شعبية، وهربت إلى الهند بطائرة عسكرية، ليتولى رئاسة الحكومة في بنجلاديش خلال عهدها الجديد، عهد من الأمل في بناء ديمقراطية جادة، وليست شكلية.
علاقة يونس بالأمير طلال
وقد وجدتُ أن هذه مناسبة للتذكير بالأمير طلال، وهو يستحق أن تظل ذكراه ومسيرته حية، ذلك أن أول تعارف لنا في مصر باسم محمد يونس العقل الاقتصادي البارز والمحارب ضد الفقر كان عبر الأمير طلال، وكان بداية هذا التعارف بالرجل اسماً وحضوراً شخصياً وحديثاً مباشراً للجمهور في مصر خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي.
زار يونس القاهرة بدعوة من المجلس العربي للطفولة والتنمية، وهو المجلس الذي أسسه الأمير طلال بن عبدالعزيز، وظل يوفر الرعاية له، ويحوطه باهتمامه، وغالباً كان ينفق عليه من ماله الخاص دون أن تكون له أهداف شخصية، إنما كانت أهدافه عربية تتلخص في رعاية الطفولة في كل قطر عربي ومحاربة ظواهر عمالة الأطفال والتشرد والعنف ضدهم واستغلالهم، والعمل على توفير حياة كريمة لهم، وكذلك طرح مبادرات تنموية لتحسين أحوال الفئات الضعيفة والمهمشة والفقيرة في المجتمعات العربية، علاوة على دعم الحكومات بالأفكار والرؤى والدراسات العلمية التي تركز على التنمية المستدامة لتطوير الاقتصاد والنهوض بالشعوب وتحسين حياتها ومعيشتها.
أمير مستنير
الأمير طلال، ومنذ شبابه وهو شخصية مختلفة عن نمط الأفكار العامة التي كانت سائدة في المملكة، فقد كان متحرراً في رؤيته لحاضر ومستقبل بلاده خشية أن يسيطر عليها الجمود أو البقاء في مربع التقليد والخوف من التحديث وعدم ولوج عتبات الحضارة، وكان منفتحاً سياسياً لدرجة أنه دعا إلى ملكية دستورية.
الأمير المستنير تأثر في منظومته الفكرية غير السائدة آنذاك في بلد شديد المحافظة بقراءاته وإطلاعه واحتكاكه بتجارب وثقافات متنوعة عربياً خاصة في مصر ولبنان، ودولياً عبر أسفاره ومعاينته لما يجري في الغرب خصوصاً من السياسة المنفتحة والنظم الديمقراطية وحكم دولة الدستور والقانون وقيم العدالة والحقوق والمساواة.

إصلاح من الداخل
طبيعي أن يكون مصير أفكاره الرفض، بل وابتعاد اضطراري عن بلاده لفترة من الزمن أمضاها في مصر، لكنه وبسبب رجاحة عقله ووطنيته وحبه لبلده وارتباطه بها لم يدخل مجال المعارضة الصفرية، إنما كان يستهدف التطوير والإصلاح من الدخل وبأيدي العائلة الحاكمة، وهو أحد أبناءها من الصف الأول، لأجل تطور وصعود وقوة المملكة.
ولو كان بيننا اليوم لوجد أن جانباً من أفكاره التي سبقت الزمن تتحقق في بلاده في إطار التحديث والانعتاق من ماض لم يعد متناسباً مع حاضر متسارع في العالم المتقدم حيث أن اللحاق به بات ضرورة حياة وشرط وجود للأوطان والشعوب.
مجلس لتوليد أفكار
المجلس العربي للطفولة والتنمية في ظل الأمير الراحل كان شعلة نشاط وتوليد أفكار، ومنظومة يجد فيها المتخصصون والمثقفون العرب وأصحاب المبادرات في مجالات عملهم المختلفة فرصة للتواجد والحديث وعرض الدراسات والأبحاث وتنبيه الحكومات لوجود نخب عربية قادرة على إفادة بلدانها في التنمية المستدامة ورعاية الطفولة ومواجهة الفقر، وهو المرض القاتل للبلدان والعائق أمام انطلاقها وبروز مبدعين فيها في مختلف مجالات العلوم وصناعة الأفكار الخلاقة.
وتقديري أن المجلس يواصل مسيرته اليوم بنفس الزخم الذي كان عليه مستلهماً حيويته ونشاطه من قيادته الجديدة ومن تاريخ وتراث وأفكار وروح الأمير طلال.
يونس ومواجهة الفقر
من باب محاربة الفقر كانت دعوة البروفيسور محمد يونس للمجلس للاستفادة من مبادرته وتجربته وخبرته في مواجهة هذه الظاهرة في بلاده، وهو صاحب فكرة عملية واقعية ناجحة لانتشال الفقراء في بلاده من مستنقع الفقر والحاجة ومنحهم أملاً في الحياة بالعمل وكسب الرزق والمساهمة في ترقية المجتمع.
فكرة يونس تمحورت حول إنشاء بنك خدمي وليس تجارياً تكون وظيفته الرئيسية إقراض الفقراء، خاصة السيدات، لجعلهن يبدأن حياة جديدة بالعمل في المشروعات المتناهية الصغر والصغيرة داخل بيوتهن.
البنوك التجارية في بنجلاديش ترفض منح الفقراء قروضاً بدون ضمانات، أو بضمانات يصعب على الفئات الضعيفة والهامشية توفيرها، وقد حاول يونس أن يقنعها بضرورة تيسير القروض للفقراء لدفعهم للعمل الإيجابي بدل تدهور أحوالهم الذي ينعكس على حالة المجتمع كله حيث يظل قابعاً في قاع الفقر والحرمان والتخلف والاتكالية.
قروض بلا ضمانات
قامت فكرة بنك (جرامين) في بنجلاديش، أو بنك الفقراء على قاعدة بسيطة هى منح السيدة قرضاً في حدود 27 دولاراً بدون ضمانات، وبفائدة لا تُذكر لتدشن بها عملاً بسيطاً، ثم تسدد القرض من نتاج عملها، وتحصل على قرض جديد طالما تستمر في مشروعها وتطوره، وهكذا توسعت الأنشطة والأعمال، وزاد حجم القروض الكلية حتى بلغت مليارات الدولارات لمئات ألوف أو ملايين من المواطنين، وانطلقت سيدات وأسر كثيرة نحو أشغال منتجة وحققوا مكاسب وفوائض مالية وانعكس ذلك في تحسين حياتهم وتعليم أبنائهم وإنقاذ ملايين الأفراد من دوائر الفقر والحرمان وارتفاع منسوب الأمل والتفاؤل والأمان لديهم.
لولا .. ومحاربة توريث الفقر
وهنا نستدعي نباهة الرئيس البرازيلي الحالي لولا دا سيلفا عندما تقلد الرئاسة الأولى بداية العقد الأول من هذا القرن حيث صمم على محاربة توريث الفقر، ففي البرازيل كان أولاد وأحفاد الفقير يرثون هذه الآفة منه في سلسلة لاتنتهي.
وقد نجح عبر مشروعات تنموية فعلية، وليست مظهرية كما هو في بلدان عربية، تستهدف هذه الفئات في انتشال نحو 30 مليون مواطن من الفقر، لهذا ولإنجازاته الكثيرة الأخرى في مختلف المجالات أعاد شعبه انتخابه لفترة ثانية، حيث حكم من 2003، حتى 2011، ثم أُعيد انتخابه رئيساً في أكتوبر 2022، وهو في السابعة والسبعين من عمره، ليكون أحد قادة أمريكا اللاتينية الكبار والاسم العالمي الذي يلقى التقدير والاحترام.
بنك الأمل
طرح يونس أفكاره وتجاربه وإنجازاته في القاهرة، وتحمس الأمير طلال لتكرار تجربة بنك الفقراء في مصر وعدد من الاقطار العربية التي تعاني شعوبها من مصاعب الحياة، وأطلق على البنك الذي أراد أن يؤسسه لغرض الإقراض المحدود للمشروعات الصغيرة اسم بنك الأمل تجنباً لاسم بنك الفقراء منعاً لجرح المشاعر، لكن الفكرة تعثرت في مصر لأسباب إدارية خارج إرادته الخيرة، ففي البلدان العربية ليست هناك إرادة جادة لتنمية جادة بعد، وجانب من عوائق التقدم تكمن في العقلية المتحجرة والبيروقراطية والنسق القانوني والإداري غير المتطور .
إما ديمقراطية أو استبداد
محمد يونس يحظى باحترام العالم، ونال عدداً كبيراً من الجوائز الدولية المرموقة والأوسمة والتكريمات، وأعلاها نوبل للسلام، وهو يستحق نوبل في الاقتصاد أيضاً.
وهو اليوم يقود سفينة بلاده في أصعب وأدق وأخطر فترة انتقالية لها، فإما إلى ديمقراطية وإصلاح فعلي دائم، وإما أن القوى المتربصة للإصلاح تنفذ ثورة مضادة لإعادة الاستبداد وتنضم بنجلاديش إلى ربيع العرب المغدور.