الخميس 31 أكتوبر 2024 08:39 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

فنون وثقافة

د. كمال يونس يكتب: الدجال

دكتور كمال يونس
دكتور كمال يونس

فتي يتيم فقير يعيش في أحد القرى النائية ،توفى والده وهو بالمرحلة الإعدادية ، دللته أمه ، انطوائي يميل إلى العزلة والوحدة ، محب للقراءة بنهم لأي مطبوعة تقع بين يديه ، مغرم بالاستماع إلى المذياع خاصة إذاعة البرنامج الثقافي، والمسرحيات المسجلة إذاعيا ، ومشاهدة التليفزيون وخاصة البرامج الثقافية والمسرحيات ،مولعا بالمتحدثين من النقاد والمثقفين ،وكم استهوته إلى حد الجنون والوله والولع تلك المفردات و المصطلحات الغربية الغريبة التي تتردد على لسان الضيوف خاصة النقاد المسرحيين،تميز بين أقرانه من الشباب القرويين بأنه فار كتب ، ومثقف عصره وأوانه ،كم كان يتباهي بترديد تلك المصطلحات في مواجهتهم ، يستعلي عليهم بها ،يحسسهم دوما بعجزهم وتفوقه عليهم ، توفت أمه وهو يستعد لامتحان الثانوية فنجح بمجموع ضعيف ، و فشل في تحقيق أمنيته في الالتحاق بأي كلية لدراسة الأدب والنقد والمسرح ،تفرغ لزراعة القراريط القليلة التي ورثها عن أبيه ، ولم يتزوج ، كان الحريص دوما على ارتداء بذلة عليها من البقع ما أن تنوء به الغسالات،ورابطة عنق يتيمة قديمة الطراز ،ناهيك عن القميص الوحيد الذي يرتديه تحت البذلة بياقته التي اختفى لونها تحت وطأة الأوساخ ،وأساور القميص التي أدركها البلى تنبيء عما بها تلك الخيوط المتناثرة نتيجة اهترائها التام ، يحمل كومة من الكتب القديمة بين دفتي أوراق صحيفة قديمة ،يسير هائما ،زائغ النظرات بشعره الكث ، ذقنه متنافرة الشعيرات ،شاربه الكثيف ،نظارته السميكة بزجاجها الداكن ،كثيرا مارآه أهل القرية يحدث نفسه بصوت عال وهو يسير في حذائه البالي الذي أعيا الصرماتي فعجز عن إصلاحه، استمر يلتهم ما استطاع من كتب النقد والمسرحيات العالمية ،واستمع وشاهد ما استطاع من الندوات الإذاعية والتلفزيونية ، وندوات شتى في قصور الثقافة ،كان يلتهم المصطلحات التهاما، يحفظها يرددها كالببغاء ، يجلس بين أهله شارد الذهن ، كان يردد المصطلحات الغريبة بصوت عال ، أو مقاطع من هملت وعطيل وأوديب وهو مستظل بشجرة التوت في الغيط ، سائرا على قدميه ، لم يفهم أهالي القرية من جيرانه في الغيط أي كلمة مما يقوله ، ظنته النسوة مخاويا أي ملبوسا بالجن من كثرة مايردده من مصطلحات غريبة اعتبرنها تمائم وتعويذات ،ليستعذن بالله من الشيطان الرجيم لدى سماعها منه ، فوجيء بهن يتقربن منه بالفطائر تارة والشاي أخرى وكيزان الذرة المشوية ،حتى فاجأته إحداهن بأن يساعدها في عمل حجاب ليكره زوجها جارتهم المطلقة اللعوب فلا يطلبها للزواج ، ودست في جيبه مبلغا من المال ، سايرها وكتب لها بحبر أحمر فيها بعض المصطلحات بطريقة متناثرة وخط رديء مرفقا إياها ببعض الرسومات الغريبة ، بالفعل تم زواج تلك المرأة ورحيلها عن البلدة بعدها بأسبوع ،ذاع صيته بين النسوة ، استمرأ الأمر بعد أن انتعش ماديا وخلع البذلة ،ارتدى الجلباب والعباءة ،امسك السبحة ، أشعل البخور وشيئا فشيئا أشتكت أحد النسوة من فسخ الخطاب لخطوبة ابنتهم دونما سبب ، وأحضرتها ليقرأ عليها ودست في يده مبلغا من المال ، أشعل البخور ،وضع يده على رأس الفتاة ، وهو يتمتم متشنجا ببعض المصطلحات المسرحية التي يحفظها عن صدر قلب ، بحق الهرمنيوطيقا والتكعيبية، والاستطيقا والتفكيكية ، والسيميولوجيا والبنيوية ، والباراديم والتغيرية الفكرية ، بحق الدراما ثيوري ،وارسطو وأفلاطون ، وبريخت فلتكسروا الإيهام ،ولتنحتوا في الفراغ لتستخرجوا الأعمال ، لن تنفعكم الميتافيزيقا ،لا تقتربوا من العمق ،تعالوا من أعلى اليمين، تقدموا إلى المنتصف، توجهوا نحو البروسينيوم ،انصرفوا ..انصرفوا ، احذروا أن تتخفوا وراء الميتاتياتر والميتادراما ،انصرفوا ،إياكم والفلاش باك ،والفلاش فوروارد ،زوم أوت زوم أوت ، انسحبوا من السينوغرافيا ، ولعلمه أن الفتاة تحب أحد شباب القرية وأهل الفتاة يرفضونه ،والفتاة بالتالي تعكنن على خطابها ،و تنفرهم منها فأمر أمها أن تقبل أول خاطب يتقدم لابنتها ،وتقدم الشاب محبوب الفتاة بعد أن أخبرته ،وأقيمت الأفراح ،ذاع صيته ،جمع مبلغا كبيرا من المال ، اكتفى وهجر القرية مطاردا حلمه، غير اسمه في السجلات الرسمية تنكرا لكل مايربطه بماضيه ،اشترى بذلة جديدة بلوازمها ،هذب شعره وذقنه ، غير نظارته ،حمل سيجارا فاخرا بين أصابعه، وجد ضالته في زبائن وسط البلد من المثقفين الحقيقيين ومثقفي الغبرة المتشنجون الناقمون دوما ،أصبح أثيرا لديهم لكرمه ودفع الحساب بدلا عنهم حتى تسلل بهم ومعهم للندوات،فباتةنجمها ،صار مشهورا يكرر المصطلحات الغريبة في الندوات،والمهرجانات ،وفي المقالات ، وفي الفضائيات بدون بخور أو أحجبة .
-------------
البروسينيوم..مقدمة المسرح