ا.د.مجدي علما يكتب : تأملات و ارتباط ملامح الوجه (١)
الجارديان المصرية ربما يكون الصينيون هم أول مَن أوجدوا علاقة بين ملامح الوجه و شخصية الإنسان و صفاته ، منذ أكثر من (٧o٠ عام ق.م.) ، بما عرف عنهم حديثاً تحت مسمى علم قراءة الوجه ، أو (ميان شيانج) .
كما أنَّ هناك بعض البرديات لقدماء المصريين تشير إلى نفس الموضوع أيضاً .
أمَّا الشاعر اليونانى هوميروس (٧٠٠ عام ق.م.) فقد أعطى وصفاً لشخصيات بعض أبطال الإلياذة الشهيرة مستدلاً بملامح الوجه و القسمات .
كما كتب الفيلسوف اليونانى فيثاغورس عام (٥٥٠ ق.م.) عن قواعد و قياسات لقراءة الوجه .
ثم جاء أبقراط (٤٠٠ عام ق.م.) ، و وضع نظرية (فِراسة الأمزجة) . حيث قسم فيها الأمزجة تبعاً لكيمياء الدم إلى : المزاج الصفراوى ، السوداوى ، الليمفاوى و الدموى ، و لكل مزاج منها صفات جسدية ترتبط بطباع كل امرئ و شخصيته .
و أول كتاب فى هذا المجال ، وضعه الفيلسوف اليونانى أرسطو (٣٥٠ عام ق.م.) . و كان اسم الكتاب (الفيسيونومى) . و قد ذكر فيه أنَّ ملامح وجه الإنسان تدل على الصفات و الطباع المختلفة ، و لها ارتباط بشكل و ملامح أوجه الحيوانات . و رأى أرسطو أنَّ مَن قارب فى الشبه حيواناً ما ، فإنَّه يتصف بصفاته ؛ كشجاعة الأسد ، قوة الثور و مكر الثعلب ، على سبيل المثال .
و كان للعرب نصيب وافر مِن الفِراسة ، توارثوه منذ أيام الجاهلية . و مِن أشهر مَن تعلم الفراسة كان الإمام الشافعى ؛ حيث قام بدراستها لعدة أعوام فى اليمن ، و نبغ فيها . و مع الفتوحات الإسلامية ، درس العرب كتب الفلاسفة اليونانيين عن الملامح و الصفات . و ألفوا عنها كتباً مستقلة ، أصبحت فيما بعد مرجعاً للأوروبيين فى قرونهم الوسطى المظلمة (٥٠٠ إلى ١٥٠٠م.) . و مِن بين تلك الكتب : الفِراسة للرازى (١١٩٠ م.) و الفراسة للإمام بن القيم (١٣٢٠ م.) ، و لكنها كانت كتباً بلا رسومات .
ثم ظهر العالم النمساوى جون كاسبر لافاتر و كتب كتابه (بحث فى الفيسيونومى) المؤلف من ٥٠٠ صفحة . و قد صدر هذا الكتاب عام (١٧٧٥ م.) ، و به ٦٠٠ صورة لوجوه موضِحة لأرائه . كما استخدم فيه معرفته بعلمى الفيسيولوجى و التشريح .
ثم أتى خبير التشريح بيتر كامبر الألمانى (١٧٨٠ م.) ، و قدم نظريته التى تنص على قياس زاوية محددة بالوجه ما بين خطين : يبدآن عند طرف الأنف ، و ينتهيان عند أسفل الذقن و أعلى الجبهة . و كلما زادت الزاوية كلما زاد رقى الفرد و ذكاؤه .
و فى بداية القرن التاسع عشر ، قدم العالم فرانس جوزيه نظريته عن امكانية معرفة الشخصية مِن خلال فحص شكل و محيط الجمجمة ؛ لأنها تدل على شكل المخ .
و أتى بعده جاسبر سبوزيم و أنتج علماً اسمه علم فراسة الدماغ (الفرينولوجى) .
و ظهر بعده علم دراسة الشخصية (الكاراكتورجى) .
و فى الأربعينيات مِن القرن العشرين ، قدم عالم النفس ويليام شيلدون نظريته عن علاقة البنية الجسدية بشخصية الإنسان .
و تلاه إدوارد جون الذى قدم علم دراسة الشخصية (البرسونولوجى) . و هو يعتبر مؤسس أحدث مدرسة فى علم قراءة الوجه .
و إلى اليوم ، يتم إصدار العديد مِن الكتب فى هذا الموضوع بشغف و اهتمام .
و لكن هناك تحفظات على كل تلك النظريات .
ملامح الوجه (٢)
الرغبة فى استكشاف المجهول سمة شائعة لدى أغلب البشر . و مِن أهم ما شغل العقول على مدى التاريخ و حتى اليوم ، هو ما يخفَى خلف الملامح و القسمات . و هذا بالطبع أمر ذو قيمة ، لما يوفره مِن تمييزٍ للخبيث الذى يتحرك بين الناس الطيبين ، و بالتالى يمكن الحذر منه و اتقاء شره .
و يُعد علماء العرب النابهون مِن أفضل الذين بحثوا فى نظريات تحليل الملامح و محاولة الربط بينها و بين الشخصية و الطباع ، باللجوء إلى الفِراسة . و الفِراسة لا تدرس الملامح كسبب رئيس فى هذا الشأن . و لكنها تدعو إلى الاهتمام بما تتركه المهنة مِن آثار ، و ما تفعله الحياة فى ملامح الوجه و التركيب البدنى و الظاهرى للإنسان . كما تشمل الملاحظة فحص النظرات و الحركات ، و دراسة السكنات و الإيماءات . و مع تحليل كافة المظاهر الخارجية ، يمكن للباحث أن يخلص باكتشاف الكثير مِن أسرار ذلك الذى يخضع للفحص ؛ كطبيعة عمله ، أحواله الاجتماعية ، فكره ، ثقافته ، طباعه و سلوكياته . و الفِراسة علم قديم مشابه لعلم دراسة الأثر على الطمى ، الرمال أو الأعشاب ، و له نفس قيمته .
أمَّا ما بذل فيه علماء الشرق و الغرب مِن قدماء أو محدثين مِن جهد غير ضنين ، ففيه جدال كبير . هو اصلاً مخالف لقواعد العقل الذى لا يقبل التجاوزات أو المبالغات ، و لا يتواءم مع الانبهار و الإذعان . و يجب ألا نغفل عن أنَّ السبق فى هذا المجال كان على أيدى فلاسفة و علماء كبار ، و لكنهم تواجدوا قبل ظهور ديانتى المسيحية و الإسلام . و بالتالى فلم يهتموا بمراعاة لأى شرائع دينية ، مِن حيث وجوب الحساب أو العقاب بعد الموت . و مِن ثم فقد كان فيما قدموه الكثير مِن الجموح ، بما يتنافى مع صحيح الأديان . و مِن خلال نظرياتهم ، قد يفهم البعض أنَّ ذا الملامح القاسية سيحيى شريراً عنيفاً ، و لا حيلة له فى منع نفسه عن الإنزلاق إلى ذلك المسار . كما أنَّ الذى يُبتلى بوجه ماكر خبيث ، هو أيضاً برئ مِن دهائه و خبثه . و هكذا سيعتقد البعض فى وجوب العفو عن كل مَن كانت له صفات أو أفعال سلبية ، كجبن أو بخل أو خيانة أو غيرها ، إذا ما كانت ملامح وجوههم تتفق أو تشير إلى وجوب الاتصاف بتلك السمات . لن يكون لهم أى ذنب حينئذ ، لأنَّ ملامحهم تثبت عدم توفر فرصة الاختيار أو الإرادة نحو التغيير . و بناءً على نظرياتهم غير المنطقية ، سيكون مِن العدل ألا يُحاسب أى منهم على أى خطيئة يرتكبها . و هذا ما يتعارض تماماّ مع مدلول الشرائع السماوية . حيث أنَّ كل امرئٍ سيحاسب على قدر مسؤوليته عن أفعاله و أقواله . و الميزان منصوب للجميع .
و لكن قد يتساءل واحدٌ ، باحثاً عن تفسير لظهور قسوة الملامح بوضوح على وجوه أغلب نزلاء السجون مِن عتاة المجرمين . و الإجابة على هذا التساؤل تنطوى على العديد مِن الاحتمالات و التفسيرات :
- قد يكون عكس الافتراض هو الصحيح . فربما يكون الجرم الذى ارتكبه الجانى هو الذى أثر على ملامحه ، و أعمل فيها مِن التغيير الكثير ؛ فزاغت النظرات و تجهمت الوجوه ، بعد أن أظلمت الدنيا أمامه .
- و ربما تعمد ذلك الذى أذنب أن يبدل مِن تعبيراته و مِن أسلوب معاملاته ؛ ليتناسب ذلك مع وجوده وسط مجموعة كبيرة مِن الخطرين الذين لا يرحمون . فمثل هؤلاء لا يتواءم معهم أبداً وجودُ طيبةٍ أو لين على الوجوه .
- كما أنَّ التواجد فى عالم الاجرام له تبعاته ، مِن جراح و علامات تشوه الوجوه و تجعلها تبدو مخيفة قاسية .
- و لا يمكن إنكار ضغوط الحياة على أصحاب النفوس الضعيفة . خاصةً إذا ما أُغلِق البابُ و انقطع الأمل . و إذا ما كان لواحدٍ مِن هؤلاء ملامح قاسية أو بنية قوية ولد بها ، فقد تسول له نفسه الأمارة بالسوء استغلالها بشكل سئ . هذا رغم أنَّه كان مِن الشرفاء غير المعتدين ، قبل تعرضه للضغوط . فأين كان إجرامه قبل هذا التحول الذميم ، مع أنه كان يتسم بنفس الملامح قبل و بعد انحرافه ؟
و إجابة هذا السؤال وحدها تدحض كل نظريات السابقين .
- و كم مِن النبلاء يحظون بكل مشاعر التقدير و الإحترام ، مع أنَّ ملامحهم تشير إلى غير ذلك تماماّ .
- و كم مِن الوجهاء أصحاب الوجوه الناعمة البريئة يخفون فى صدورهم قلوباً أشد قسوة مِن الحجارة . و لم تطهرهم ملامحهم الطيبة .
و ما كان الهدف مِن هذا الطرح هدمَ نظريات السابقين الذين سعوا و اجتهدوا . و لكن فقط لعرض رؤية لها وجاهتها و توافقها مع الشرائع السماوية ، و مع تعاليم الدين الإسلامى الحنيف .
#علما