د.عماد هادي الخفاجي يكتب: رحلة الذاكرة والمقاومة: قراءة في مسرحية وين رايحين؟ لحيدر منعثر
الجارديان المصريةفي عالم المسرح، يبرز استخدام اللهجة المحلية كوسيلة لتعزيز الواقعية والتواصل العاطفي مع الجمهور، فالمخرج البريطاني (كينيث براناه) أحد الرواد في هذا المجال، اعتمد على اللهجة المحلية في تقديم عروضه المسرحية، مما جعل النصوص الكلاسيكية أكثر قربا وفهما للجمهور المعاصر حيث برهن (كينيث براناه)، من خلال أعماله مثل(هنري الخامس) وغيرها، على أن استخدام اللهجة المحلية يمكن أن تضفي حياة جديدة على النصوص القديمة، ويجعلها أكثر تأثيرا وفهما للمشاهدين. بالمثل، قدم المخرج العراقي (حيدر منعثر) مسرحياته، بما في ذلك مسرحية (وين رايحين؟) باللهجة الدارجة المحلية، ليعكس بصدق وعمق معاناة الشعب العراقي، حيث استفاد من اللهجة المحلية لنقل مشاعر وتجارب شخصياته بواقعية مؤثرة، مما أضفى عليه لمسة من الواقعية والارتباط القوي مع الجمهور، مما جعل العرض قريبا من نبض الحياة اليومية في العراق.
تأتي مسرحية وين رايحين؟ للمخرج العراقي المبدع حيدر منعثر، كصرخة فنية تنبض بالحياة والواقع العراقي، حيث تمثل رحلة الباص، تصويراً معبراً لمعاناة الشعب العراقي على مدى سنوات طويلة من القهر والضيم والاستعباد، فكان للباص رمزية رائعة مثلت الهروب الى اللامكان وهي رحلة معاناة الشعب العراقي بسبب الحكومات المتتالية. كل محطة تمر بها الرحلة تروي فصولًا من القهر والضيم الذي عاشه الشعب، من فترة القمع، مرورا بسنوات الحرب والاحتلال، وصولا إلى تهجير وقتل المواطنين تحت وطأة الإرهاب فضلا عن صاحب المقود الذي كان يمثل المنتفعين والذي يعكس الواقع المرير الذي واجهه العراقيون، حيث يتم استغلالهم من قبل الفئات المستفيدة على حساب مأساتهم.
الاداء التمثيلي
الاداء التمثيلي لكل من (اياد الطائي، طلال هادي، لؤي احمد، زهرة بدن، لمياء بدن،امير احسان) كان أداءً مقنعا ومتقنا، بحيث عزز التجربة المسرحية بإداء قوي ومتقن انسجم مع الرسالة الفنية والدرامية للعمل مما جعلها تجربة فنية مؤثرة ولا تنسى للجمهور من خلال ما يلي:
1. التعبير الجسدي القوي: تميز الأداء في المسرحية بالتعبير الجسدي المكثف والدقيق، حيث أظهر الممثلون بشكل فعال الانعكاسات العاطفية للشخصيات والمشاهد بأسلوب ينسجم تماما مع السياق الدرامي.
2. استخدام اللغة المحلية: تميز الأداء باللغة المحلية الواقعية التي تعكس ثقافة وهوية الشخصيات وتزيد من واقعية الأداء وتأثيره على الجمهور.
3. التفاعل الديناميكي للشخصية: برز الأداء بالتفاعل الديناميكي بين الشخصيات داخل الباص، مما يجعل كل لحظة مليئة بالتوتر والتبادلات العاطفية والصراعات المتشابكة.
4. الصوت والإيقاع: تعزز الأداء من خلال استخدام الأصوات والإيقاعات الموسيقية التي تعكس حالة العقل الجماعي والمشاعر المتناقضة داخل الباص، مما يسهم في إضافة أبعاد إضافية للتجربة السمعية للجمهور.
5. استخدام التكنولوجيا السمعية البصرية: يتميز الأداء بالاستخدام الفعال للتكنولوجيا السمعية البصرية، مثل السكرين والتقارير البصرية عليها، لإضافة طبقة إضافية من الواقعية والتفاعل مع الأحداث التاريخية والمأساوية التي تعيشها الشخصيات، والتي اتمنى على المخرج (حيدر منعثر) الاهتمام المتزايد بها وبشكل كبير جدا، لضمان تقديمها بصورة دقيقة ومحترمة للواقع التاريخي والاجتماعي، كونها تشكل وثائق تاريخية مهمة تمس شريحة كبيرة من المجتمع، وذلك من خلال ما يلي:
• تسليط الضوء على من صنع النصر، من المهم التأكيد على الجهود والبطولات التي ساهمت في تحقيق النصر، سواء كانت هذه الجهود تعود إلى الأفراد العاديين أو الجماعات التي واجهت التحديات الكبيرة بحيث ينبغي أن يتم تقديم هذه الشخصيات بشكل بارز، وتسليط الضوء على تضحياتهم وشجاعتهم.
• تقديم وجهات نظر متعددة، من الضروري تقديم وجهات نظر متعددة للأحداث التاريخية من خلال الوثائقيات والعروض المسرحية. هذا النهج سيساعد في تقديم صورة أكثر شمولية وموضوعية للتاريخ، ويتيح للجمهور فهم الأحداث من زوايا مختلفة.
• تحسين الإنتاج الفني، يجب التأكد من أن الأفلام الوثائقية تتمتع بجودة إنتاج عالية، بما في ذلك التصوير، التحرير، والصوت. الجودة العالية ستعزز من تأثير الوثائقيات وتجعلها أكثر تأثيراً وفاعلية في نقل الرسالة.
• التعاون مع مؤرخين ومتخصصين، يمكن التعاون مع مؤرخين ومتخصصين في التاريخ العراقي لضمان دقة المعلومات المقدمة في الوثائقيات وان هذا التعاون سيساهم في تقديم محتوى موثوق ومؤثر يعكس الواقع التاريخي بشكل صحيح.
وباختصار شديد فانه من خلال تحسين وتطوير الوثائقيات المعروضة في المسرحية، وتسليط الضوء على الأبطال الحقيقيين، يمكن للمسرحية أن تقدم رسالة تاريخية واجتماعية قوية ومؤثرة وبالتالي كل هذا سيضفي على العرض واقعية وقوة لنقل المشاعر الجياشة والقصص المؤلمة بصدق وتأثير عالي جدا.
الإخراج
يلعب الإخراج دورا محوريا في إيصال الرسالة الدرامية وتجسيد الأجواء المأساوية التي عاشها العراقيون على مدار واحد وعشرين عاما، بحيث يمكن تناول عدة جوانب رئيسية في تحليل إخراج هذه المسرحية: اختيار المكان والزمان: الباص كرمز: استخدام الباص كمنصة للمسرحية هو اختيار ذكي، يعكس رحلة الحياة اليومية للعراقيين والمعاناة المستمرة، هذا المكان المحدود يُبرز الشعور بالحصار وعدم القدرة على الهروب من الواقع. الفترة الزمنية: تغطي المسرحية عدة فترات من تاريخ العراق، من فترة ما قبل الحرب الإيرانية-العراقية إلى فترة العقوبات، مرورا بفترة داعش والى الان، هذا التنوع الزمني يُعزز من الإحساس بالتاريخ الثقيل والمتكرر للمأساة. الشخصيات والأداء: السائق كشخصية رمزية: تجسيد السائق كشخصية متهربة ومستفيدة من الوضع يعكس صورة الحكومة أو السلطة التي تستفيد من معاناة الشعب، وهذا يخلق صراعا داخليا لدى الجمهور بين الشخصيات المختلفة ويمثل القوى المتصارعة في المجتمع. التفاعل بين الشخصيات: الشخصيات الثلاثة داخل الباص، كل واحدة تحمل قصتها الخاصة، تمثل تعدد وجهات النظر والمصائر الفردية، هذا التفاعل يعزز من ثراء الدراما ويُعطي بعدا إنسانيًا للقصة. استخدام اللهجة المحلية: اللغة كمكون ثقافي: استخدام اللهجة المحلية يجعل المسرحية أكثر واقعية وقربا من الجمهور، يساهم هذا في تعزيز شعور الانتماء والهوية، ويعكس الحياة اليومية بتفاصيلها الدقيقة.
الارتباط العاطفي: اللغة المحلية تساعد في بناء ارتباط عاطفي أقوى مع الجمهور، مما يُعزز من تأثير الأحداث الدرامية.
الإضاءة والموسيقى: الإضاءة: استخدام الإضاءة يمكن أن يعكس التحولات الزمنية والنفسية في المسرحية. على سبيل المثال، الانتقال من إضاءة دافئة إلى إضاءة باردة يمكن أن يعكس التحول من الأمل إلى اليأس. الموسيقى الحية للشاب(وسام الحلي) لعبت دروا حيويا في تعزيز واثراء العمل المسرحي بشكل عام وفي مسرحية وين رايحين بشكل خاص لعبت دورا حاسما في تعزيز الاجواء والتأثير العاطفي للأحداث، حيث اضفت الجو المناسب للمشهد سواء كان ذلك بتعزيز التوتر، الحزن، الامل، او الياس وكل هذا يساهم في تعميق تجربة الجمهور وزيادة التأثير العاطفي للمشهد هذا من جانب ومن جانب اخر يمكن للموسيقى الحية التي اختارها (منعثر) ان تتفاعل مع الاحداث الجارية على المسرح مما يساعد في تعزيز التناغم بين الصوت والحركة والحوارات مما يجعل الاداء اكثر انسجاما وتأثيرا، فضلا على ان استخدام الموسيقى الحية في المسرحيات مفيدا لتعميق وتحسين تجربة الجمهور وابراز الجوانب العاطفية والدرامية بشكل اكبر مما يساهم في انشاء تجربة مسرحية غنية ومتكاملة وهذا ما سعى اليه منعثر بالعرض.
إجمالاً، يمكن القول أن حيدر منعثر استخدم مجموعة متنوعة من الأدوات الإخراجية لخلق عمل مسرحي قوي ومؤثر يعكس بدقة وحساسية معاناة العراقيين عبر السنوات المؤلمة
السينوغرافيا
السينوغرافيا في السياق المسرحي تشير إلى تصميم وتنسيق المسرح والمشهد بشكل عام، بما في ذلك المنظر المسرحي، والإضاءة، والأجواء البصرية العامة التي تخلقها المسرحية. في مسرحية وين رايحين؟ تم استخدام السينوغرافيا بشكل متقن ومدروس لتعزيز الرسالة الفنية والتعبير عن الأجواء والموضوعات الرئيسية للعرض. فكان اختيار تصميم الباص بشكل دقيق ليكون محاكاة للحياة اليومية والمأساة التي يعاني منها الشعب العراقي ويمكن أن يتضمن ذلك استخدام الألوان، والمواد، والتفاصيل التي تعكس الواقعية وتساعد في نقل الجمهور إلى البيئة المسرحية.
الإضاءة والظلال: لعبت الإضاءة في العرض دورا حاسما في إبراز الجو العام وتحديد التركيز على الأجزاء المهمة من السينوغرافيا والمشاهد فكان استخدامها واضحا في تعزيز التغيرات في المزاج والزمن داخل العمل المسرحي.
الرموز: استخدم منعثر السينوغرافيا لتمثيل رموز معينة تتعلق بالموضوعات الرئيسية للمسرحية، مثل الباص كرمز للهروب أو للعيش في ظروف صعبة ومحصورة.
الاستخدام الفعال للمساحة: تم استخدام السينوغرافيا لتعزيز الديناميكية الفضائية داخل الباص، مما يساعد في تعزيز التفاعل بين الشخصيات وزيادة إشراك الجمهور في الأحداث.
التكامل مع الأداء والموسيقى: عمل التصميم السينوغرافي على تعزيز الأداء العام للمسرحية والتفاعل مع الموسيقى والتأثيرات الصوتية، مما خلق تجربة مسرحية شاملة ومتكاملة للجمهور. وكل هذا مكن منعثر من أن يعزز التأثير الفني لمسرحيته ويساعد في نقل القصة والموضوعات بشكل أكثر واقعية وقوة إلى الجمهور.
وختاما، تُعتبر مسرحية وين رايحين؟ للمخرج (حيدر منعثر) رسالة قوية تستعرض الحاجة الماسة للتحرر من العبودية، بكل اشكالها، وتنبّه إلى أن الحرية الحقيقية والعدالة لا يمكن أن تتحقق إلا عندما يتحد الشعب ليقف بوجه الظلم بكل أشكاله، وتضع الضوء على التضحيات التي يجب أن يقوم بها الأفراد لتحقيق التغيير الإيجابي في مجتمعاتهم.