السيناريست عماد النشار يكتب : تَغْرِيدَةُ سُقْرَاطَ الأَخِيرَةُ
![السيناريست عماد النشار](https://www.alguardian.com/img/25/02/08/91785.jpg)
![](https://www.alguardian.com/ix/GfX/logo.png)
في ساحات أثينا العتيقة، قبل محاكمته، وقف سقراط يتأمل وجوه الناس، متوقعًا مصير الأجيال القادمة. كانت العيون مرهقة، والوجوه شاحبة، وكأنها انعكاس لأرواح مثقلة بالهموم. لم يكن يخشى الموت بقدر ما كان يخشى انحراف ميزان القيم، حيث أصبح الذهب أثمن من الحكمة، والثراء أهم من التربية، والركض وراء المال أسرع من احتضان الأبناء. كانت أثينا، مهد الفلسفة، تتحول شيئًا فشيئًا إلى ساحة للماديات، حيث تقاس قيمة الإنسان بما يملك، لا بما يعرف.
سُئل سقراط قبل محاكمته عن أعز أمنياته، فأجاب والابتسامة لا تفارق شفتيه، وكأنه يسخر من عبثية الزمن:
"أن أصعد إلى أعلى مكان في أثينا، وأنادي بأعلى صوتي: أيها الرفاق... لماذا تتهالكون على جمع المال، وتقضون أعز سنين حياتكم في عبادة الذهب، بينما تهملون تربية أطفالكم الذين سترثونهم كل شيء؟ لماذا تحسبون الغنى بما تكدسونه من دنانير، لا بما تغرسونه من قيم؟"
كان سقراط يدرك أن المجتمعات لا تنهار بفعل الحروب وحدها، بل بانهيار المبادئ والقيم. كان يعلم أن الذهب لا يورَّث كما تُورَّث الحكمة، وأن المال قد يكون لعنة إذا لم يصحبه وعي، وقد يتحول إلى وبال إذا وقع في يد من لا فكر له. كم من غنيٍّ أورث أبناءه أموالًا طائلة، لكنهم عاشوا فقراء الفكر، غريبي الروح، تائهين في ظلمة الجهل. وكم من فقير لم يترك خلفه إلا كلمات مضيئة، لكنها كانت لهم سراجًا في دروب الحياة.
حين وقف سقراط أمام قضاته، لم يكن يراهم وحدهم من سيحكم عليه، بل رأى الزمن بأسره محكمة ممتدة عبر العصور. رأى وجوهًا غير مرئية تجلس خلف المنصة، أجيالًا لم تولد بعد، لكنها ستعيد محاكمته كلما انحرفت القيم، كلما طغى المال على الفكر، كلما تحولت الحياة إلى سباق محموم نحو الأرصدة المتزايدة بدلًا من العقول التي تحتاج إلى تغذية. في تلك اللحظة، لم يكن سقراط وحده المتهم، بل كانت الإنسانية كلها قيد المحاكمة.
واليوم، بعد قرون طويلة، لم تمت القضية، ولم تُغلق أوراقها. تغيّرت الساحات، فلم تعد في قلب أثينا، بل أصبحت في فضاء افتراضي يعج بالضجيج. السوشيال ميديا أصبحت أسواق المدينة، حيث لا يُباع الذهب وحده، بل تباع الأفكار والمشاعر على هيئة منشورات وتعليقات وإعجابات. صار الناس يركضون وراء الأرقام، لكن لا في صورة دنانير، بل في صورة متابعين ومشاهدات. أصبح التفاخر لا بالأخلاق والمعرفة، بل بعدد المشاركات وإشارات الإعجاب. في هذه الساحة الرقمية، لم يعد الناس ينصتون لصوت الحكمة، بل لصوت من يصرخ أعلى، ومن يجيد التلاعب بالعناوين والمحتوى.
لكن أين الأبناء وسط كل هذا؟ إنهم هناك، في غرفهم المغلقة، عيونهم تتابع شاشات لا تعلّمهم سوى الاستهلاك، عقولهم تُغذى بمحتوى سريع زائف، أرواحهم تتيه في فضاء بلا جذور. يرثون ما لم يُربَّوا عليه، ويعيشون في بيوت مليئة بكل شيء... إلا الدفء، والفهم، والحكمة.
تغريدة سقراط لم تمت، لكنها الآن تصرخ في فراغ أوسع، في عالم تظنه متصلًا لكنه أكثر عزلة من أي وقت مضى. فهل من مستمع؟