السبت 15 فبراير 2025 04:56 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

دكتور علاء الحمزاوى يكتب : {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ}

دكتور علاء الحمزاوى
دكتور علاء الحمزاوى

ــ شعبان شهر مفضل عند العرب حتى قبل الإسلام، فهو مشتق من الشعْب بمعنى الاجتماع والتجمُّع، وسُمِّي بذلك لكثرة الخير فيه؛ فيُجمِّع الناس بعد افتراقهم أو هو من التشعُّب بمعنى التفرُّق، حيث كانت القبائل تتفرق فيه ذهابا إلى الملوك لالتماس العطية أو بحثا عن الماء والمرعى أو للغزو بعد قعودهم في رجب المحرَّم، أو لأن أغصان الشجر تتشعب فيه أي تكثر فتنتشر وتتفرق، وهو شهر رفع الأعمال السنوية الصالحة؛ فكان النبي يُكثِر من الصيام فيه تحقيقا لمزيد من العمل الصالح، ومن مظاهر تفضيله أن الله استجاب لرغبة النبي بتحويل القبلة فيه وفقا للغالب على الأمة. ــ وقد تحدّث القرآن عن تحويل القبلة في ثلاث آيات، ثم أكد في آيتين أن الكعبة قِبلة المسلمين إلى يوم القيامة، بدأت الآيات بقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}، الفعل {سَيَقُولُ} يدل على أن حدثين سيحدثان مستقبلا هما تحويل القبلة وتلاسن بعض الناس بكلام جارح، و{السُّفَهَاءُ} أعداء الإسلام سرا وعلنا؛ لأن السفاهة هي الضلال وخفة العقل، و{ولَّاهم} حوَّلهم وصرفهم، أي ما الذي صرف المسلمين عن قبلة بيت المقدس؟ والسؤال للسخرية والاستهزاء لأنهم سفهاء، وقد وقعت السفاهة بعد التحويل، وأخبر بها القرآن قبل أن تقع، وإخبار القرآن بأمر مستقبلي هو تهيئة للمسلمين لاستقبال تلك السفاهة دون تأثير سلبي عليهم، كما يدل على صدق القرآن وحماقة السفهاء، فلو كانوا أذكياء ما تلاسنوا فكذّبوا القرآن.
ــ وجاء الــردّ عليهم {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ليخرسهم، فالاتجاهات كلها لله، يميِّز بعضها عن بعض كيفما يشاء وقتما يشاء، وعلى المؤمنين الامتثال لأمر الله بالسمع والطاعة، فلا يتصرفون في ثوابت الدين من أنفسهم، وهذا معناه أن التجديد في الخطاب الديني لا يمسُّ الثوابت إنما يكون في المتغيرات والمستجدات المرتبطة بمصالح العباد، ثم أكد القرآن أن هداية الناس هي من عند الله، فقال تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فلا يمتلك العبد أن يهدي نفسه إلى الحق إلا بإذن الله، لكن هداية الله للعبد مبنية على استعداد العبد لها، ففي الحديث "ما مِنكُم مِن نَفْسٍ إلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، قالوا: يا رَسُولَ اللهِ فَلِمَ نَعْمَلُ؟ أَفلا نَتَّكِلُ؟ قالَ: لَا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له، ثُمَّ قَـرَأَ {فَأَمَّا مَنۡ أَعۡطَىٰ وَٱتَّقَىٰ وَصَدَّقَ بِٱلۡحُسۡنَىٰ فَسَنُیَسِّرُهُۥ لِلۡیُسۡرَىٰ وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسۡتَغۡنَىٰ وَكَذَّبَ بِٱلۡحُسۡنَىٰ فَسَنُیَسِّرُهُۥ لِلۡعُسۡرَىٰ}.
ـــ ثم قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ}، الخطاب للنبي، والمعنى ما شرعنا لك قبلتك الماضية إلا امتحانا للناس، فنميز من يتبعك ممن يرتد عن دينك، وهنا إشارة إلى أن بعض السفهاء مسلمون مرتدون وهم المنافقون بالإضافة إلى اليهود والمشركين، ولما شكَّك السفهاء المسلمين في صلاتهم ناحية بيت المقدس بقولهم: إن كانت قبلتهم صحيحة فلماذا عدلوا عنها؟ وإن كانت غير صحيحة فلماذا صلَّوا عليها؟ طمأن الله المؤمنين بقبول صلاتهم نحو القبلة الأولى ردًّا على تشكيك السفهاء بقوله تعالى: {وَمَا كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ}؛ فالمراد بالإيمان هنا الصلاة.
ــ ثم بشّر الله نبيه بقوله تعالى: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، وهذا هو أول خطاب قرآني يحدّد الكعبة قبلة للمسلمين، ويؤكد ضمنيا أن قبلتهم الأولى كانت بيت المقدس، وكان النبي في مكة يصلي بين الركن اليماني والحجر الأسود متوجها نحو القبلتين معا، وكان التوجه لبيت المقدس تأكيدا لقدسيته عند المسلمين، ونزلت الآيـة في صلاة الظهر أو العصر، فصلى النبي بالصحابة ركعتين تجاه بيت المقدس وركعتين تجاه الكعبة، ومنذ تلك اللحظة وجب على المسلمين التوجه للكعبة في صلاتهم.
ــ والتوجه للكعبة خارج الصلاة مستحب حتى في الجلوس؛ ففي الحديث "خَيْرُ المَجالِسِ ما اسْتُقْبِلَ بِهِ القِبْلَةُ"، ويُستثنى من ذلك قضاء الحاجة لقول النبي: "إذا أتَيتُمُ الغائِطَ فلا تَستَقبِلوا القِبلةَ ولا تستدبروها بغائِطٍ ولا بَولٍ، ولكنْ شَرِّقوا أو غَــرِّبوا"، وهذا النهي واجب في الخلاء مستحب في البيوت؛ لأن البيوت مقيدة بالبناء في اتجاهات ثابتة، وقد ثبت أن النبي قضى حاجته في بيت مستدبرا الكعبة، لكن يُستحب عند البناء ألا يُكون الحمامُ مستقبلا أو مستدبرا للقبلة.