السبت 22 فبراير 2025 01:08 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

السيناريست عماد النشار يكتب : أَقْلَامٌ ذَهَبِيَّةٌ فِي غَيَاهِبِ التَّجَاهُلِ

السيناريست عماد النشار
السيناريست عماد النشار

ما أتعس أن يولد الإبداع في أرضٍ لا تُنصفه، وأن يتحوّل المبدع الحقيقي إلى طائرٍ جريحٍ محاصرٍ في قفص النكران. هؤلاء الذين يحملون في عقولهم شموع النور وفي قلوبهم نبض الحياة، يُعاقبون لأنهم رفضوا أن يبيعوا أقلامهم في أسواق الزيف والتملق. يعيشون في صراعٍ دائمٍ مع واقعٍ يدهس المواهب النقية تحت أقدام الرداءة، بينما يعلو التصفيق لكل ما هو غثٌ وسطحي.

المبدع الحقيقي لا يطلب أكثر من حقه الطبيعي في أن يُسمع، أن يُقرأ، أن يُتاح له المجال ليضيء بفكره. لكنه في هذا الزمن يُواجه مأساةً تفوق الوصف: عزلٌ اجتماعي، تهميشٌ ممنهج، وإقصاءٌ متعمد من قبل مؤسسات ثقافية أصبحت أبعد ما تكون عن رسالتها الأصلية. هؤلاء الذين يفترض أن يكونوا حراس الإبداع، تحوّلوا إلى عرّابين للفساد الثقافي، يوزّعون الاعترافات على أصحاب الولاء الشخصي، بينما يُغلقون الأبواب أمام أي موهبة حقيقية لا تُجيد لغة النفاق.

تخيلوا حال المبدع الذي يقضي لياليه في صراعٍ مع أفكاره، يسكب روحه في كتاباته، ويرسم أحلامه على صفحاتٍ بيضاء، فقط ليجد نفسه أمام جدارٍ شاهقٍ من الإهمال. يرى أعماله، التي تحمل خلاصة وجوده، تُرمى في زوايا النسيان بينما تُرفع أصوات المبتذلين عاليًا. إنها مأساة تمزق الروح، مأساة أن تعطي الحياة كل ما لديك، ثم تُقابل بالصمت المطبق.

المؤسسات الثقافية، تلك الكيانات التي كان يُفترض بها أن تكون حاضنة للمبدعين، أصبحت مقبرة للأحلام. ملايين تُنفق على مهرجانات تُشبه عروض السيرك، ولجان تحكيم لا تُقيم وزنًا إلا للمعارف الشخصية، ومكاتب تُغلق أبوابها أمام كل نصٍ لا يتوافق مع أهواء القائمين عليها. هؤلاء الذين يحملون الشعارات البراقة عن "دعم الثقافة"، هم أنفسهم الذين دفنوا الثقافة تحت أنقاض الفساد والعبث.

إن مأساة المبدعين ليست فقط في غياب الدعم، بل في غياب العدالة الثقافية. كيف يمكن لقلمٍ شريف أن ينجو في بيئة تُكافئ الانتهازية؟ كيف يمكن لفكرٍ نقي أن يُثمر في مناخٍ يسوده التملق؟ إن ما يحدث هو اغتيالٌ يومي للإبداع، اغتيالٌ لكل حلمٍ جميلٍ كان يمكن أن يُغيّر هذا العالم.

إننا أمام مسؤولية أخلاقية، مسؤولية أن نقف إلى جانب هؤلاء الذين أعطوا الحياة لونها ومعناها. المؤسسات الثقافية، إذا كانت قد فقدت ضميرها، فعلى المجتمع بأسره أن يستيقظ. على القراء أن يبحثوا عن تلك الأقلام المدفونة، أن يُنصفوا المبدعين الذين أضاءوا لنا طريق الفكر دون انتظارٍ لثناءٍ أو دعم.

المبدعون الحقيقيون لا يموتون، لكن كفاحهم في ظل هذا الإقصاء يترك ندوبًا لا تُمحى. وإن لم ننتصر لهم اليوم، فإننا نخسر جزءًا من روحنا، جزءًا من إنسانيتنا، ونترك أنفسنا فريسةً لثقافةٍ خاوية لا تُنتج إلا الفراغ.

لكن العزاء الوحيد لهؤلاء المهمشين أن جوائز التربيطات والمصالح لا تصنع مجدًا، وأن الشهادات الممهورة بتوقيع الشللية لا تمنح الخلود. وحدها الكتابة الحقيقية تُنصف صاحبها، تمنحه جائزةً لا تُشترى ولا تُباع: "أن تؤلف كتابًا، أن يقتنيه غريب في مدينة غريبة، أن يقرأه ليلًا، أن يختلج قلبه لسطر يشبه حياته، ذلك هو مجد الكتابة."