السبت 22 فبراير 2025 06:18 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

السيناريست عماد النشار يكتب من أبقراط إلى أبو صفية: مشرطٌ في وجه الموت

السيناريست عماد النشار
السيناريست عماد النشار

في غرفة مضاءة بالشموع، كان التلاميذ يجلسون في خشوع، وأمامهم أبقراط، شيخٌ مهيب الوجه، يقرأ من بردية كُتب عليها كلمات ستخلّدها الأزمان: "أقسم أن أكون مخلصًا لمهنتي، ألا أُسبّب أذى، ألا أفشي سرًا، وألا تكون يدي أداةً للموت." لكن أبقراط لم يكن ليتخيل أن بعد ألفي عام، سيقف طبيبٌ آخر، في مكانٍ آخر، ليس وسط تلاميذه، بل وسط الجثث، تحت قصفٍ لا يفرق بين حيٍ وميت. لم يكن يعلم أن قسمه، الذي كُتب بالحبر، سيُعاد كتابته هناك، لكن بالدم.
في مستشفى كمال عدوان، حيث يتحول المشرط إلى أداة في معركة الحياة، كانت الأضواء الخافتة والمولد الكهربائي الذي يصدر طنينًا متقطعًا يرافقان الجراحين الذين يعملون كمن يحفر في لحم الموت لإنقاذ الحياة. الرائحة مزيج من الكحول والدم والنار. في الزاوية، يقف حسام أبو صفية، طبيب أطفال، لكنه لم يعد يُعالج الحصبة أو الأنفلونزا، بل يخيط أجسادًا ممزقة، يوقف نزيفًا بلا مسكنات، يُعيد الأرواح وكأنه يقبض على الزمن بأظافره. في تلك الليلة، لم يكن يفكر كطبيب، بل كأب. فقد وعد ابنه إبراهيم أن يراه قبل منتصف الليل. الساعة تجاوزت الثانية، لكنه يعرف أن إبراهيم يفهم. لم يكن يعلم أن الموت كان أسرع منه بخطوة.
جاء الصاروخ الذي غيّر كل شيء. صفير طويل، ثم انفجار يهزّ المكان. هرع الطبيب نحو الباب، رأى الغبار يتصاعد، رأى الأجساد متناثرة كدمى محطمة. بحث بعينيه اللاهثتين بين الركام، ثم رآه. إبراهيم، ابنه الشبل، الطفل الذي كان يطلب الدفء في حضن أبيه، صار جسدًا بلا ملامح. للحظةٍ، ظنّ أن قلبه توقف. لم يكن طبيبًا حينها، كان أبًا فقد نصفه، لكن الموت لم يمنحه وقتًا للانهيار. مسح دموعه كما مسح الدم عن يديه، وعاد إلى طاولته الجراحية. هناك مرضى ينتظرون، وهناك أطفال آخرون لهم آباء سيأتون في الصباح ليسألوا عنهم.
حين يصبح الطب جريمة، لم يعد مشرطه سلاحه الوحيد، بل صار جسده هو المستهدف. في 27 ديسمبر 2024، اقتحم الجنود المستشفى، تعالت أصوات الأوامر بالعبرية، ووقف الأطباء بأيدٍ مرفوعة، قبل أن يخترق الصمت صوت بارد يُعلن اعتقاله. لم يسأل لماذا. كان يعرف الإجابة. جريمته كانت أنه أنقذ من كان يجب أن يموتوا.
في معتقل سدي تيمان، حيث لا مشرط ولا ضماد، وحيث الهواء يُوزّع بالقطارة، جلس حسام أبو صفية متسائلًا في صمته: هل كان مخطئًا؟ هل كان يجب أن يتركهم لمصيرهم؟ لكنه كان يعرف الإجابة. يعرفها في قلوب الأطفال الذين عادوا للحياة بين يديه، في دموع الأمهات اللواتي وجدن أبناءهن أحياء، في كل جرحٍ أُغلق، وكل حياةٍ استمرت.
من أبقراط، الذي جعل الطب قسمًا مقدسًا، إلى أبو صفية، الذي جعله شرفًا يُعاقب عليه، كان الطريق طويلًا. ولو كان في هذا العالم ذرة من عدل، لارتفع تمثاله فوق مبنى منظمة الصحة العالمية، لا ليحمل مشرطًا، بل ليحمل شهادة إدانة لعالمٍ يعتقل الأطباء ويطلق القتلة. فالمحتل قد يكسر يد الطبيب، لكنه لن يمحو أثرها، ولن يطمس حقيقة أن في غرف العمليات كان هناك من ينقذ، بينما كان على الطرف الآخر من التاريخ من يقتل. قد يُسجن الطبيب، قد تُكسر يداه، قد يُعذب، لكن سيبقى الطبيب. أما من اعتقله، فسيبقى قاتلًا.