السبت 22 فبراير 2025 05:59 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

خالد درة يكتب: بالعقل أقول …( السنة الثالثة لحرب أوكرانيا و أوروبا بين نزيف الاقتصاد والإنفاق العسكري عليها …)

الكاتب الكبير خالد درة
الكاتب الكبير خالد درة

من أبرز الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الأوروبي خلال السنوات الثلاث الماضية كان الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة ..

حيث تُكمل الحرب الروسية الأوكرانية سنتها الثالثة ، ولا تزال أوروبا تتحمل تبعاتها الاقتصادية على مستويات متعددة .. فمنذ اندلاع النزاع في 24 فبراير 2022 ، يواجه الاتحاد الأوروبي صدمات حادة في أسواق الطاقة ، و زيادات غير مسبوقة في الإنفاق العسكري ، و تكاليف ضخمة تترتب على دعمه أوكرانيا ..

و من أبرز الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الأوروبي خلال السنوات الثلاث الماضية كان الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة .. ففى عام 2022 ، قفزت أسعار الغاز الطبيعي إلى أكثر من 300 يورو ( 313 دولاراً ) لكل ميغاوات / ساعة ، مما أدى إلى ارتفاع تكاليف المعيشة و زيادة الضغوط على القطاعات الصناعية التي تعتمد على الطاقة في شكل مكثف .. وعلى رغم أن الأسعار انخفضت لاحقاً إلى حوالي 50 يورو ، إلا أنها لا تزال أعلى بكثير من مستويات ما قبل الحرب .. وتمثّل أحد أكبر التطورات في هذا المجال في التوقف الكامل لإمدادات الغاز الروسي عبر أوكرانيا اعتباراً من يناير 2025 ، بعد انتهاء عقد العبور بين موسكو وكييف ..

و في مواجهة أزمة الطاقة المتفاقمة ، سارعت الحكومات الأوروبية إلى تبني استراتيجيات جديدة لتنويع مصادر الطاقة .. حيث افتتحت ألمانيا ، باعتبارها أكبر اقتصاد في القارة ، محطة "دويتشه أوستسي" لاستقبال الغاز الطبيعي المسال في لوبمين مطلع عام 2023 ، في محاولة لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي .. كذلك تعزز أوروبا استثماراتها في مصادر الطاقة المتجددة ، لكن هذه الجهود لا تزال غير كافية لتعويض الفجوة التي خلفها تقليص الإمدادات الروسية ..

على جانب آخر ، أجبرت التهديدات الأمنية المتزايدة دول الاتحاد الأوروبي على تعزيز إنفاقها العسكري بوتيرة غير مسبوقة .. عام 2023 ، حيث بلغ إجمالي الإنفاق العسكري الأوروبي نحو 588 مليار دولار ، بزيادة 16 في المئة عن العام السابق ، وهي أكبر زيادة منذ الحرب الباردة .. لقد رفعت ألمانيا ، التي كانت تعتمد تاريخياً الإنفاق الدفاعي المنخفض ، لميزانيتها العسكرية بشكل كبير .. أما فرنسا ، فقد خصصت 14.8 مليار يورو إضافية بين عامي 2022 و 2025 لتعزيز قدراتها العسكرية ، مع توقعات بزيادات أخرى اعتباراً من عام 2026 ..

وفي هذا السياق ، بدأت الولايات المتحدة ، التي كانت حتى وقت قريب المزوِد الرئيسي للمساعدات العسكرية لأوكرانيا ، في الضغط على الدول الأوروبية لتحمل مسؤولية أكبر في دعم كييف .. وبالفعل ، خصص الاتحاد الأوروبي ، بالإضافة إلى المملكة المتحدة ، ما مجموعه 118 مليار يورو كمساعدات عسكرية و اقتصادية و إنسانية لأوكرانيا حتى منتصف عام 2024 .. ومع ذلك ، بدأت بعض الأصوات الأوروبية تعلو مطالِبة بمراجعة حجم هذه المساعدات ، في ظل عدم وجود تقدم أوكراني ملموس في ساحة المعركة ..

وعلى نطاق أوسع ، أثرت الحرب في صورة كبيرة في الاقتصاد الأوروبي .. فوفق صندوق النقد الدولي ، قد تصل التكلفة الإجمالية للنزاع على الاقتصاد العالمي إلى 2.8 تريليون دولار بحلول نهاية عام 2025 ، مع تحمل أوروبا العبء الأكبر من الخسائر .. و في منطقة اليورو ، قفز معدل التضخم إلى 7.4 في المئة في مارس (آذار) 2022 ، مدفوعاً بارتفاع أسعار الطاقة بنسبة 45 في المئة خلال الأشهر الأولى من الحرب .. و على رغم تراجع معدل التضخم تدريجياً مع انخفاض أسعار الطاقة ، فلا تزال آثاره واضحة في تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات الفائدة نسبياً ، ما أثر في القدرة التنافسية للشركات الأوروبية عالمياً ..

ومن التداعيات الاقتصادية الأخرى ، تأثر الاستثمارات الأوروبية في روسيا بشكل كبير بسبب العقوبات المتبادلة .. فقد جُمِّدت أصول تقدر بحوالي 200 مليار يورو ، في حين باتت العديد من الشركات الأوروبية التي كانت تعمل في السوق الروسية قبل الحرب ، تواجه مصيراً مجهولاً ، وسط احتمالات تأميم ممتلكاتها أو مصادرتها من قبل الحكومة الروسية ..

و على رغم الأعباء الاقتصادية الهائلة التي تحملتها أوروبا ، لا يعني إنهاء الحرب بالضرورة عودة فورية إلى الاستقرار .. فمع توقف إمدادات الغاز الروسي ، سيكون على القارة اتخاذ قرارات صعبة في شأن مستقبل سياساتها في مجال الطاقة ، و ما إذا كانت ستبحث عن طرق لإعادة فتح قنوات التعاون مع موسكو ، أم ستواصل استراتيجيتها في الاعتماد على مصادر بديلة ، على رغم التكلفة المرتفعة .. أما الإنفاق الدفاعي ، الذي ارتفع في صورة كبيرة ، فلن يتراجع بسرعة ، و لاسيما مع ضغوط إدارة ترامب على أوروبا لتعزيز قدراتها العسكرية وضمان أمنها بقدراتها الذاتية ..

اليوم ، تجد أوروبا نفسها عند مفترق طرق حاسم ، حيث يتعين عليها إعادة تقييم سياساتها الاقتصادية والدفاعية بما يتماشى مع معطيات مرحلة ما بعد الحرب .. فالنزاع الذي بدأ كنزاع إقليمي على أطراف القارة ، تحول إلى أزمة شاملة غيرت موازين القوى الاقتصادية و الاستراتيجية في العالم .. و السؤال الذي يطرح نفسه : هل ستكون أوروبا قادرة على تجاوز هذه الأزمة و استعادة استقرارها ، أم أن هذه الحرب ستظل تلقي بظلالها على مستقبل القارة لعقود مقبلة من الزمن؟.