الأحد 23 فبراير 2025 07:49 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

فنون وثقافة

محمد فضيل الخفاجي يكتب عن : مسرحية دخان (الجدل الذاتي.. واحتضار الانطولوجية الانسانية)

الجارديان المصرية

لطالما طالعنا تاريخ المسرح عبره مسرده الطويل؛ عن ذلك الصراع المتأزم لوجود الانسان كقضية قبالة قوى غيبية كانت ام ظنية ام كائنة بالفعل؛ ليتصير كم هائل من ذلك التناقض والتصارع ما بين المواقف والآراء والافكار؛ ولطالما اتخذ ذلك الانسان موقفًا على قدر كبير من الاهمية والثبات وبما يميله عليه الموقف الوجودي مهما كانت تلك القوى ورفعتها ومكانتها سواء كانت الهية ام قدرية ام مادية؛ ليأخذ مكانته الوجودية التي يستحق من وصفه كائنًا وجوديًا له مدياته في الطبيعة والكون والعالم؛ فارضًا رأيه وافكاره وأهدافه وميوله ورغباته؛ بفعل ارداته، ولنا شواهد ومثابات شاخصة دلَّت وتدُّل لتلك الارادات الدالة بدءًا من (البروميثيوسية) (من وصف الإرادة الانسانية بوصفها مبدأً فهي ظابطة للكل؛ وغايتها في ان يتحول الانسان الهًا في عين نفسه؛ لكنها تقضي عليه من وصفه شخصًا عاديًا؛ وبانكارها للمطلق؛ غرِقَ الانسان في لجة الفوضى والارتباك والتناقض الفكري واختلال المفاهيم والقيم والاخلاق).
وفق هذه الدالة في نوع الارادة وقعت الشخصية الموندرامية في عرض مسرحية دخان في العقدة البرومثيوسية وفق ذلك الجدل الذاتي الذي اختطته مسارًا حياتيًا ازاء جملة من الاسئلة الانطولوجية المؤطرة في فوضى المفاهيم وعقم الأخلاق وتنافر الافكار وغياب القيم والعدالة والفضيلة والمعرفة وصولًا لغياب المدينة الفاضلة والزمن المساوق لها؛ من وصف تلبُّس معتقدها واستيلاء ذهنها وتشبُّع نفسها حيال موقف تم التحذير منه دون الدراية الكاملة والمعرفة التامة من مسببات التجنُّب..
تتجاذب الشخصية الرئيسة مع ذاتها وتطرح تعبيراتها النفسية المخبؤءة في ظل ازمتها الوجودية واغترابها واسلابها الفكري والمكاني؛ في محاورة فلسفية واتصال ذاتي عميق بين ( الانا و الانا) .. حوار الذات مع الذات عندما تحمل صورتين متناقضتين وفكرين متصارعين وموقفين مختلفين، ليحلل ويصور وينقِّب في دهاليز الذات والنفس الانسانية وما يعتريها من إرهاصات ودوافع ورغبات وميول مع حجم الامكانات المتاحة، بوصف الانسان الكائن الوحيد الذي امتلك زمام نفسه رغم كل الاستلابات والاستثناءات الحياتية التي تجرِّدها من ذلك الامتلاك من قوى وسلطة ومعرقلات مادية اخرى، وصولًا لذلك التقهقر والانهزام الذاتي الداخلي ليكون امتلاك الانسان لنفسه استثناءً. ليتبدى ويفيض تلك الاوهام كمعادل موضوعي واتزان نفسي قبالة نسيان تلك الهموم والهزائم التي عصفت بالذات وخلخلة الوجود واقلقت النفس واضطربت الكينونة وتعطلت القيم وتبدلت المفاهيم وتعطَّبت الاخلاق وعقمت الحياة وخرُبَ الانسان، وبات كل شيء متخلخلًا خاليًا من الفضيلة والعدالة والمساواة. وباتت الحياة صخرة ثقيلة يجرَّها الإنسان بساقيه المتعبتين، وهي تسوُّر ذاته ووجوده وتأطره بكم هائل من الانهزامات الداخلية والخارجية، وذلك النخر الحياتي والوجودي والخراب الذي لف مصير الشخصية من غياب الشهادة وغياب العمل وغياب الحب وغياب الزواج، وبات كل شيء خاويًا وهمًا. والحياة باتت صحراءً قاحلة لاهبة لاذعة عنيدة؛ تعطي القشور وتأخذ اللب، والانسان في لجتها يصارع فجورها بتقواه.
مسرحية دخان.. تصوير راقٍ ومعادلة يتأرجح فيها الانسان ويصارع ذاته ونصفه الداخلي الاخر.. ويقارن صورة انا الانسان مع انا الانسان؛ النصف الذي امتلك كل شيء مع النصف الذي لا يمتلك اي شيء؛ النصف الذي قتل الف مرة في اليوم قبالة النصف الذي عاش كل يوم الف مرة. النصف الذي امتلك الرايات والكلمات التي صدحت بها الاف الافواه قبالة الذي لا رايات له ولا كلمات. النصف العاري الذي الذي لا يمتلك سوى الدخان قبالة من لبس افخر الثياب. النص الذي امتلك الشرف قبالة النصف الذي فقده. هنا الفارق في المعادلة الجدلية والمقارنة الانطولوجية التي حمله انسان الانسان؛ بوصف الحياة محطة انتظار مسافر زاده الصبر ، وتطهيرًا للنفس وتعلية شأنها، ويرفض نصفها النصف الاخر من الانسان ولا ان تكون كما هي كائنة، بل تكون في العدل والصدق والأمانة بالرجوع إلى الله ومعرفة الانسان رب الانسان.
اجاد الممثل احمد عباس تقديم هذه الشخصية الموندرامية بوعي عالٍ وهو يتنقل وبحرفية عالية في اروقتها الداخلية والنفسية معبرًا عن ازمتها النفسية العميقة وكان حاملًا لفكرتها وارهاصاتها جارً تلك الحياة المليئة بالفجور والتقوى عبر تلك السلسلة التي ارهقت كاهل الانسان وهو يصارع ذاته مع ذاته متساوقًا مع سيزيف مدحرجًا صخرته مجسدًا لا منطقية الحياة الإنسانية ولا عقلانيتها، وأن المرء لابد أن يتخيل أن سيزيف كان سعيدًا مسرورًا، تمامًا كما أن النضال والصراع والكفاح ذاته نحو الأعالي والمرتفعات كافٍ وكفيل بملء فؤاد الإنسان.. ليس هناك عقاب أفظع من عمل متعب لا أمل فيه ولا طائل منه. على حد رأي البير كامو. وبطل مسرحية دخان كان سعيدًا وسعادته كامنة بجدله الذاتي ورفضه لذلك الوهم متسلحًا بالشرف والفضيلة.
مسرحية دخان تصوير جمالي ناهض عبر تلك المنولوجات المتماوجة التي لخَّصت بشكل أو بآخر ذلك الجدل الذاتي الداخلي العميق وذاك الصراع النفسي مع الذات لكي تكون كما ينبغي ان تكون لا كما هي كائنة.. في ظل دوامة من استحضار كم هائل من الاسئلة الانطولوجية التي ارهقت الانسان.
مسرحية دخان.. تأليف: احمد عباس.. اخراج: علي عدنان التويجري.. تمثيل: احمد عباس .. ضمن عروض المهرجان المسرحي البابلي السادس.. الثلاثاء ١١/ ٢/ ٢٠٢٥ مسرح كلية الفنون الجميلة/ بابل.. الساعة الحادية عشر صباحًا.