الإثنين 10 مارس 2025 12:14 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

محمود المليجي يكتب : وجع العمر

الكاتب الكبير محمود المليجي
الكاتب الكبير محمود المليجي

فاعلية سياسية بالحزب اشتد فيها الجدال والمناقشات حامية الوطيس وارانى استعرض دراسة عمالية كنت قد انتهيت لتوى من اعدادها وفى تلك الاثناء
تردنى مكالمة هاتفية من اختى التى أكاد اسمع صوتها بصعوبة من فرط الزعر الذى يعتريها
: محمود الحق ماما
: مالها ؟
: انتابتها رجفة شديدة واختل توازنها ترد علينا بصعوبة ويزوغ بصرها بين الحين والآخر وتدخل إلى ما يشبه الإغماء وكسا وجهها الصفار
ومع استشعارى للخطر على حياة امى لم اتبين كلمات اختى التى خنقتها العبرات وتهدل صوتها ولا ادرى كيف انتهت المكالمة واصابنى دوار للحظات لم اتمالك فيها نفسى وشعرت بالارض تخور تحت أقدامى ويكاد قلبى أن يقفز خارج صدرى من فرط اختلاجه
حاولت جاهدا أن اتماسك واعيد إلى نفسى اتزانها فأنا الان على مشارف
حدث جلل يستلزم الثبات والحكمة لإدارة الازمة .هكذا شعرت .
فى هذه اللحظة تيقنت أن والدتى ستدخل فى غيبوبة كبدية هذا المصير الذى حاولنا جاهدين فى الإبتعاد عنه فهى كانت قد وقعت فريسة للغول المسمى فيروس التهاب الكبد الوبائى المعروف بفيروس سى والنهاية الحتمية هو الدخول إلى كهف الغيبوبة الكبدية الموحش كمحطة اخيرة قبل الانتقال إلى رحمة الله والاستسلام للموت هكذا هى دورة حياة هذا الفيروس ولم يكن فى حينها قد اكتشف له علاج ولا امصال .
وكان اخر ما تذكرته من مكالمة اختى أن لابد من الإسراع لنقلها إلى المستشفى
وهناك فى قسم الطوارئ طبيب يفحص واخر يتم استدعاءه على عجل وطاقم التمريض يهرول ويتناوب الأطباء على فحصها وبعد الفحص من قبل الاطباء أسقط فى ايديهم و رأيت علامات التسليم بادية على وجههم هنا فقط تأكد لدى انها النهاية فكل كلمات الأطباء تدل على أنه ليس للبشر اى قدرة لمساعدة المريضة والأمر كله أصبح متروكا لرب البشر وبدأت الحالة فى التدهور
وبدأت انظر إلى وجه امى واتفحصه وامرر يدى على وجنتيها وامسح جبهتها ويعتصر قلبى الما وأنا أرى وجه أمى وقد انتابته التشنجات وقبل لحظات من دخولها إلى الغيبوبة الكاملة انسابت منى العبرات وأنا الحظ عليها التشوش وصعوبة الوعى وافتقاد الإدراك فهى تنظر إلى الحضور حولها ولا تستبين منهم احد حتى أولادها ولا تعلم مكانا ولا زمانا ورغم كلماتها القليلة جدا بين الحين والآخر أراها وقد تحدثت إلى شخوص غير موجودين وكأنها فى حالة حوار معهم والدها المتوفى منذ عشرين عاما ووالدتها التى كانت تحفظ ملامحها بالكاد فوالدتها تلقفتها يدى الردى وهى ابنة ثمانى سنوات
ووسط هذه المعاناة وهذا الصراع بين الموت والحياة حدث ما يثلج صدرى ولو للحظات فجأة تفتحت عيناها كوردة فى الربيع وانتبهت لدقيقة كاملة وامعنت النظر الى فبدارتها بسؤال لاستبين هل فاقت وان كل ماحدث كان عارضا هل تعرفينى ؟ واذا بها تجيبنى نعم اعرفك فأنت حبيبى شعرت لبرهة انها إجابة دبلوماسية كونها لا تميزنى جيدا فسألتها ثانية ايوة حبيبك مين ؟
فشدت على يدى وضمتنى إلى صدرها وقالت حبيبى محمود ابنى الغالى فدخلت فى نوبة بكاء منهمر لا أميز له سببا هل بكائى نابع من كونها تعرفتنى دون غيرى ام لأنى قاب قوسين او أدنى من فراقها؟ صراع قوى
وكانت تلك اخر كلماتها قبل أن تدخل إلى الغيبوبة وتغمض عينيها لتدخل إلى عالم آخر فى انتظار رحمة الله وظلت على هذه الحالة جسد مسجى يتنفس دون حراك من المساء حتى قبيل الفجر .
ومع اذان الفجر الذى بدأ يتنامى إلى مسامعنا شعرت بما يشبه وكأنها تتحرك و تريد أن تتكلم وبالفعل سمعت صوتها هامسا لا يكاد يبين قائلة : هل هذا الاذان هو اذان الفجر فاجابتها اختى نعم يا امى فقالت نفسى أقوم كى أصلى فقالت لها اختى وهى ترتاب فى يقظتها صلى وانت نايمة يجوز لأنك تعبانة
فشرعت فى الصلاة وكبرت تكبيرة الإحرام ودخلت إلى سباتها الاخير فلم يعد لها حراك تلقاها الرحمن برحمته واسترد وديعته .
بعدها اختلطت على المشاعر والأحاسيس بين فرحة عارمة بحسن الخاتمة التى رزقها به الله وبين فقدانى لامى نبع الحنان والحب
ما أصعب ما يعانيه المرء بموت امه أشعر وكأنى طردت الان من جنة الحياة الدنيا رحلت امى بجسدها فقط وظلت روحها لم تفارق روحى
وان العين لتدمع وأن القلب ليحزن وانى لفراقك لمحزون يا أمى ٠

واليوم فى ذكرى وفاتها أسألكم لها الدعاء لعل من بينكم من يستجيب الله دعاءه
اللهم أغفر لها وارحمها وأعفو عنها وأكرمها، اللهم وسع مدخلها وادخلها الجنة وغسلها بالثلج والماء والبرد، اللهم يمن كتابها وهون حسابها ولين ترابها وثبت أقدامها وألهمها حسن الجواب، اللهم طيب ثراها وأكرم مثواها واجعل الجنة مستقرها ومأواها، اللهم نور مرقدها وعطر مشهدها وطيب مضجعها، اللهم آنس وحشتها وارحم غربتها وقها عذاب القبر وعذاب النار، اللهم نقها من خطاياها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم فسح لها فى قبرها واجعله روضة من رياض الجنة ولا تجعله حفرة من حفر النار، اللهم انقلها من ضيق اللحود والقبور إلى سعة الدور والقصور مع الذين أنعمت عليهم من الصديقين والصالحين والشهداء، اللهم اجعل لها من فوقها ومن تحتها ومن أمامها ومن خلفها وعن يمينها وعن يسارها نورا من نورك يا نور السماوات والأرض.. أمين يا رب العالمين