الأربعاء 16 أبريل 2025 11:10 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مصر اليوم

دكتور عوض الغبارى يكتب : الفرج بعد الشدة فى كتاب المقريزى إغاثة الأمة بكشف الغمة

دكتور عوض الغبارى
دكتور عوض الغبارى

مرت مصر بمجاعات وأوبئة فتاكة أودت بحياة كثير من المصريين عبر العصور الطويلة المختلفة.
وقد سجل "المقريزى"؛ مؤرخ مصر بعض هذه الوقائع المهلكة التى انقشعت وجاء إثرها الفرج فضلا من الله ونعمة.
وكتاب "إغاثة الأمة" سجِّل لأحداث مؤثرة فى التاريخ المصرى، وقد امتاز بطرافة موضوعه وتفوق مؤلفه. ويتناول الكتاب تاريخ المجاعات التى "نزلت بمصر منذ أقدم العصور إلى سنة 808هـ (القرن التاسع الهجرى/ الخامس عشر الميلادى) متفردا بالبحث فى أثر المجاعات سياسيا واقتصاديا على المصريين، مقترحا العلاج الاقتصادى لها( ).
والمقريزى صاحب الموسوعات التاريخية المهمة مثل "الخطط"، يضارع "ابن خلدون فى أهميته التاريخية" ، وقد سجل كلاهما تاريخ المجاعات من صميم النواحى الاقتصادية . ويعرض تصدير الكتاب لمنهج كليهما فى ذلك بالدعاء للقارئ فى بداية كل فصل وحقائق الموضوع فى أسلوب علمى فلسفى موجز، ويختم الفصل بآيات القرآن الكريم وبالأشعار التى تناسب المقام.
وقد عاين "المقريزى" إحدى هذه المجاعات المهلكات بمصر، وتوفيت ابنته الوحيدة إثر طاعون بعد مجاعة طويلة مما أثار اهتمامه بالكتابة عن هذا الموضوع. وكتاب "إغاثة الأمة بكشف الغمة" رسالة صغرى خرجت عن الإطار التاريخى بمعناه العام إلى ما تخلله من أحداث خاصة( ).
وقد افتتح "المقريزى" الكتاب بالدعاء لمَن بيَّن للناس "أسباب ما نزل من المِحَن، وعرَّفهم كيف الخلاص مما حلَّ بهم من جليل الفتن".
وقد ذكر أن البلاء سُنة الحياة منذ الأزل، داعيا إلى نظر الحُكَّام فى مصالح العباد، مبينا أسبابه ليتيسر عسيره( ).
ولا يعرف الشوق إلا مَن يكابده، فالإنسان يجزع مما يعانيه من بلوى وإن كانت قليلة قياسا إلى ما سمع عن أشد منها.
هكذا يقرر "المقريزى" عزاء لمن قاسى من المصائب، داعيا إلى الاعتبار من أحداثها الصعبة والصبر عليها والاحتمال لمكارهها حتى تزول.
ويذكِّر "المقريزى" بما مضى من المحن القاسية خاتما الفصل بذكر الحكمة التى يهبها الله لمن يشاء من عباده متدبرا قوله تعالى : ﴿ يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ [البقرة : 269] .
ويذكر المقريزى من أقدم المحن فى مصر الغلاء الذى كان سببه ارتفاع الأمطار بسبب الطوفان وغرق الزرع والناس فى زمن بعض ملوك مصر القدماء إلى أن حدث الرخاء بعد ذلك.
وقد ذكر وقائع الغلاء الذى "دبَّر أمر البلاد فيه يوسف عليه السلام".
ويدل قوله تعالى : ﴿ولَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف:130].
على ما وقع بمصر من هلاك للزرع والحيوان زمن مبعث موسى عليه السلام إلى فرعون( ).
ووقع البلاء بمصر زمن ولاية عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وفى زمن الدولة الإخشيدية بسبب نقص مياه النيل.
وتوالى نقص النيل على فترات كثيرة وماجت مصر بكثير من الاضطراب الذى صحب ذلك من قلة الغذاء وغلاء الأسعار.
وعلى ذلك تصدق مقولة : "مصر هبة النيل" إذ تتعلق حياة المصريين به.
وفى العصر الفاطمى ازداد الغلاء، واشتد الوباء، وفشت الأمراض " وكثر الموت حتى عجز الناس عن تكفين الأموات ودفنهم، فكان من مات يُطرح فى النيل"( ).
ثم أعقب هذه الشدة انخفاض الأسعار وخصوبة الأرض وحصول الرخاء.
وعند قلة القمح نتيجة جفاف النيل كانت هناك رقابة صارمة على مَن يستغل الأزمة من التجار أو بائعى الخبز، وعقاب لهم كان يردعهم عن تخزين القمح، ومنعه عن الناس لبيعه بأغلى من سعره.
أما الشدة التى وقعت زمن الخليفة الفاطمى المستنصر فقد كانت مثار صعوبات كثيرة واجهت الحياة المصرية، وزعزعت استقرار الدولة.
لكن الدولة أخذت تدابير لمواجهة ذلك بعد أن فشا الاضطراب بين الناس، وقل الغذاء حتى أكل الناس الكلاب والقطط، ونضبت موارد الدولة، وآل المصير السيئ إلى أن تُرِك الناس فى مواجهة الموت جوعا حتى كشف الله الغمة( ).
وقد ورد لفظ جميل هو "المتجملون" فى وصف الفقراء الذين لايُظهرون المسكنة والذل على أنفسهم( ).
وفى عصر الدولة الأيوبية حصل الغلاء لتوقف النيل عن الزيادة "فتكاثر مجئ الناس من القرى إلى القاهرة من الجوع" حتى أكل الناس لحوم بنى آدم، وهلك الزرع والضرع وانتشرت الجثث فى الطرقات". واستمرت هذه المحنة الشديدة ثلاث سنوات. ( ) ويُقال سنة سبع أى افترست أسباب الحياة. "فلما أغاث الله الخلق بالنيل لم يوجد أحد يحرث أو يزرع". وفى سنة ست وتسعين وستمائة هلك الناس جوعا، واجتمعوا وابتهلوا إلى الله واستسقوه فأغاثهم( ). وكان مقياس النيل نصب عين المصريين لمعرفة أحوال البلاد من حيث ارتفاعه أو انخفاضه، واهتم بعض المؤرخين بتسجيل مقياس النيل كل سنة.
وفى شدة القحط اضطر الناس إلى بيع أولادهم( ). وكان عجين الخبز أو الخبز يتخطفه الناهبون فى حالة القحط، إلا إذا كان هناك من يحرسه. وأعيا الناس طلب الدواء، وبذلوا فى ذلك الأموال، وبلغ عدد الموتى حوالى ثلاثة آلاف كل يوم فى بعض هذه الشدائد، "وكثرت أرباح التجار والباعة، وازدادت فوائدهم"( ).
وفى دلالة بليغة على سوء المصير لمن استغل الناس أوقات الشدة والغلاء والوباء يشير "المقريزى" إلى ندمهم، حيث لم ينفع الندم، فللظلم نهاية.
وقد تكرر أمر الغلاء والبلاء والمجاعة بمصر فى العصر المملوكى، وبسبب نقص مياه النيل وقع الغلاء "وعزَّت الأقوات، وقل وجودها، فمات الكثير من الجوع حتى امتلأت الطرقات، وأعقب ذلك وباء مات فيه كثير من الناس، وكان ذلك سنة 736هـ ، واستمر الحال سنتين إلى أن "أغاث الله الخلق وأجرى النيل، فارتوت الأراضى، وحصل الرخاء بعد ما خامر اليأس القلوب".( )
ويقرر "المقريزى" أنه شهد هذه المحنة، وختم تاريخها بعد انفراج الشدة بقوله تعالى : ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾[ الشورى: 28]
وينتقل "المقريزى" إلى بيان الأسباب التى نشأت عنها هذه المحن وما تبعها من أحداث أثَّرت فى الحياة المصرية، وانعكست بآثارها السيئة على كافة الجوانب الاقتصادية.
ومن أهم أسباب التفاقم فى أحداث المجاعات فساد القائمين على الأمر بغير كفاءة، وتعيينهم بالرشوة، "فتخطَّى لأجل ذلك كل جاهل ومفسد وظالم وباغ إلى ما لم يكن يؤمِّله من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة".( )
وكان من أثر ذلك المغالاة فى جباية الأموال من الناس، وقلة الزرع، واضطراب الأمن فى البلاد. وكانت المعاملة بالذهب والفضة، ثم نشأت الفلوس وتعامل بها أهل مصر، وقد ضُربت فى عصر الملك الكامل الأيوبى، وضُربت من النحاس الأحمر زمن الظاهر برقوق المملوكى، وكثر الذهب بأيدى الناس مع رواج التعامل بالفلوس( ).
ويعقد "المقريزى" فصلاً لأقسام الناس، وأحوالهم، ويتصل ذلك بمستويات الحياة فى مصر، وهم سبعة؛ أهل الدولة، وأهل اليسار- من التجار والباعة - ، وأهل القرى والريف من الفلاحين ، والفقراء- والعجيب أنهم معظم الفقهاء وطلاب العلم كما رأى المقريزى" - وأرباب الصنائع، وأخيراً ذوو الحاجة والمسكنة. ويتتبع المقريزى أحوال هذه الطبقات السبع أثناء المحن، إذ انخفضت دخول أهل الدولة فخسروا لإساءة اختيارهم لأعوانهم الذين غلبَّوا مصالحهم على مصالح الناس. وكذلك كانت عاقبة التجار الجشعين.
ثم تشتد العاقبة الوخيمة على الطبقات الأخرى، الذين كان من بينهم -كالفقهاء وطلاب العلم- ما بين ميت أو مشتهى الموت( ). أما أرباب المهن فقد مات أكثرهم وتضاعف أجر الموجودين منهم.
وفى فصل نادر يثبت المقريزى الأسعار فى عصره، مبينا أن فساد الأمور ناتج عن سوء التدبير لإغلاء الأسعار، وأن تدارك ذلك رهن بالحكمة التى يهبها الله من شاء من عباده، وأنه إما أن تكون الأمور على وجه الاقتصاد، أو على سبيل التبذير وعلى الإنسان أن يتدبر أمره لصالحه وصالح البلاد.
كما أشار "المقريزى" إلى أن الحكمة تكمن فى تدبير موازنة الدولة بين الدخل والمصروف( )، وإلا كان الخلل فى ذلك سبباً لزوال النعم والهدى إلى إغاثة العباد وعمارة البلاد( ). وتلك رؤية اقتصاية صائبة تصلح إلى الآن.

الهوامش:

( ) المقريزى، إغاثة الأمة بكشف الغمة، دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، نشرة محمد مصطفى زيادة، وجمال الدين محمد الشيال، ص ج، د.
( ) إغاثة الأمة ، ص د.
( ) إغاثة الأمة ، ص 3 ، 4.
( ) إغاثة الأمة ، ص 10.
( ) إغاثة الأمة ، ص 14.
( ) إغاثة الأمة ، ص 27.
( ) إغاثة الأمة ، ص 29.
( ) إغاثة الأمة ، ص 31.
( ) إغاثة الأمة ، ص 32.
( ) إغاثة الأمة ، ص 34.
( ) إغاثة الأمة ، ص 36.
( ) إغاثة الأمة ، ص 40.
( ) إغاثة الأمة ، ص 43.
( ) إغاثة الأمة ، ص 71.
( ) إغاثة الأمة ، ص 75.
( ) إغاثة الأمة ، ص 85.
( ) إغاثة الأمة ، ص 86.

دكتور عوض الغبارى : الفرج بعد الشدة فى كتاب المقريزى إغاثة الأمة بكشف الغمة