دكتور محمد الأمين شعبان يكتب : الفلسفة والحياة


حين نتساءل: ما الفلسفة؟ فإننا لا نطرح سؤالاً أكاديمياً فحسب، بل نطرح سؤالاً وجودياً من الطراز الأول.الفلسفة، في أصل معناها، هي حب الحكمة. لكنها، في الحقيقة، هي التوجه العميق نحو فهم الحياة، نحو منح الوجود معنى، وتفسير الفوضى التي تسكن هذا العالم. إنها رحلة عقلية وروحية وأخلاقية، تنقذ الإنسان من السطحية، وتدفعه نحو الغوص في جوهر الأشياء.
الفلسفة ليست تأملاً عابراً، بل هي موقف من الحياة. هي الطريقة التي نرى بها العالم، نفهم بها ذواتنا، ونتفاعل من خلالها مع الآخرين. إنها ليست رفاهية فكرية، بل حاجة وجودية. فما نعتقده عن الخير والشر، عن السعادة والألم، عن المصير والغاية، كل ذلك ينبع من فلسفتنا الخاصة، حتى وإن لم نُدرك ذلك وعيًا.
عرف التاريخ البشري مفكرين عظاماً حاولوا تقديم أجوبة عن أسئلة الحياة: سقراط ببحثه عن الفضيلة كسبيل للعيش الجيد، أرسطو بمحاولته تصنيف الموجودات والبحث عن غاية الوجود، ديكارت بتركيزه على الذات المفكرة، نيتشه بثورته على القيم السائدة، وسارتر برؤيته للحرية كقدر الإنسان. هؤلاء وغيرهم لم يقدموا أجوبة نهائية، بل فتحوا أبوابًا للتفكير الحر والتساؤل المستمر.
في عصرنا الراهن، حيث تسود التقنية، وتتفكك الروابط، وتتسارع الوتيرة، يجد الإنسان نفسه في مواجهة سؤال المعنى: لماذا نعيش؟ من نكون؟ إلى أين نمضي؟ الفلسفة في هذا السياق تصبح ضرورة داخلية، تعيد للإنسان توازنه، وتمنحه القدرة على التفكير في القيم والاختيارات والمآلات.
هناك نوعان من الناس: من يترك الحياة تسوقه، ومن يسوق حياته برؤية واضحة. والفلسفة تمنحنا هذه الرؤية. إنها ليست مبحثاً نظرياً معزولاً، بل هي طريقة عيش، ممارسة عقلية وسلوكية، تُعلمنا كيف نعيش لا كيف نُعرف الحياة فقط.
في التصور الإسلامي، لا تنفصل الفلسفة عن الإيمان. بل تتجلى في الرؤية الكونية التي يكونها المسلم عن الله، والكون، والإنسان، والحياة، والغاية. هذه الرؤية تُشكل فلسفة وجودية كاملة، تعزز الوعي بالذات، وتضبط السلوك، وتُعيد ربط الإنسان بالقيمة والمعنى والغاية. إنها فلسفة أخلاقية وعملية تنبع من التوحيد وتثمر السكينة.
الفلسفة الحديثة لم تعد تقتصر على التنظير، بل ظهرت اتجاهات تدعو إلى الفلسفة التطبيقية، التي تشتغل على الحياة اليومية، كالفلسفة الاستشارية، وفلسفة التربية، وفلسفة الطب، وفلسفة التكنولوجيا، وهي تعكس حاجة الإنسان إلى التفكير لا كترف، بل كوسيلة للبقاء الإنساني الأصيل.
أن تحيا دون فلسفة، هو أن تعيش على هامش الوجود. أما أن تسأل، وأن تفكر، وأن تراجع مسلماتك، فهو ما يجعل منك كائناً حقيقياً. فالفلسفة لا تُعلمك كيف تفكر فقط، بل كيف تحيا. إنها فن العيش الحكيم، والعقلاني، والحر.
ولا يمكن إغفال أن هناك عددًا من المقولات الخالدة التي عبر بها كبار الفلاسفة عن عمق العلاقة بين الفلسفة والحياة، تلك العبارات التي لا تزال تُلهم العقول وتوقظ الوعي:
سقراط قال: "الحياة التي لا يُفكر فيها، لا تستحق أن تُعاش."، مؤكدًا أن التفكير هو جوهر الوجود الإنساني. أما أفلاطون فاعتبر أن "الفلسفة تبدأ بالدهشة"، تلك اللحظة الأولى التي ينكسر فيها الاعتياد، وتُفتح فيها بوابة التساؤل. وذهب أرسطو إلى أن "السعادة هي المعنى والغاية من الحياة، الغاية القصوى من الوجود الإنساني."، رابطًا الفلسفة بتحقيق الخير الأعلى. بينما يرى كانط أن "الفلسفة هي علم العلاقة بين المعرفة والعقل والأخلاق"، بما يعكس طموح الفلسفة في بناء الإنسان الكامل. وقال جان بول سارتر في وصف مأزق الإنسان الحديث: "الإنسان محكوم عليه بالحرية."، في إشارة إلى ثقل المسؤولية في غياب الموجهات المسبقة. وأشار برتراند راسل إلى الدور التحريري للفلسفة بقوله: "الفلسفة، وإن لم تُقدم لنا إجابات نهائية، فإنها توسّع أفق الفكر، وتُحرره من سلطة العادة." وختامًا، يذكرنا سينيكا بأن: "الفلسفة لا تُعلمنا كيف نموت فقط، بل كيف نعيش أيضًا."، في تأكيد على دورها الحيوي في ترسيخ فن الحياة الواعية.