الإثنين 21 أبريل 2025 02:40 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب: الحبسجية والسرسجية والمطبلاتية.. صناعة التفاهة في زمن الضياع

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

يبدو أننا نعيش في زمن انقلبت فيه المعايير رأسًا على عقب، زمن أصبح فيه الصدق عملة نادرة، والاجتهاد كلمة مهجورة، والكرامة شعارًا مهملًا، بينما التفاهة صارت العنوان العريض لمجتمع بات يتصدره الحبسجية والسرسجية والمطبلاتية.

ثلاثية عبثية تحكم المشهد، وتسيطر على مساحات واسعة من حياتنا، وتفرض نفسها بقوة وسط صمت النخبة وتخاذل المؤسسات التي يفترض أن تربي وتقوم وتوجه. فالواقع اليوم لم يعد يسمح للشرفاء وأصحاب الضمير بالظهور بسهولة، بل ترك الساحة مفتوحة أمام هذه النماذج المريضة، التي باتت تمثل القدوة لشرائح واسعة من الشباب، وكأنها النور الوحيد في عتمة حاضرنا.

الحبسجية لم يعودوا مجرد مجرمين قضوا سنوات في السجون بسبب جرائم ارتكبوها، بل أصبحوا نجوماً اجتماعيين يتفاخرون بجرائمهم، يحكون عنها في الجلسات، وينشرونها عبر السوشيال ميديا، ويجدون من يتابعهم ويصفق لهم، كأن الحبس صار مرحلة "نضج اجتماعي" وليس وصمة عار. وهكذا نشأ جيل جديد يرى أن الطريق إلى الشهرة يبدأ بخطوة في عالم الإجرام، طالما أن المجتمع بات يكافئ الخارجين عن القانون بالمكانة والشهرة.

وفي زاوية أخرى من المشهد يقف السرسجية، هؤلاء الذين لا ينتمون إلا للفوضى، يتخذون من الشوارع مسارح لاستعراض انحرافهم، يزرعون في عقول الشباب مفاهيم مزيفة عن الرجولة والجدعنة، ويجعلون من البلطجة أسلوب حياة، ومن السفاهة بطولة، ومن الألفاظ السوقية لغة يومية، حتى أصبح وجودهم معتادًا في كل حي وشارع وزاوية، بلا رادع أو خوف، وسط صمت المجتمع وانشغاله بتوافه الأمور.

أما المطبلاتية فهم الوجه الآخر للخطر، الوجوه التي باعت ضميرها بثمن رخيص، اختارت النفاق طريقًا، والمصالح دربًا، تلهث خلف صاحب النفوذ وتردد ما يمليه، حتى لو كان باطلًا، فتغيب عنهم مبادئ الحق والعدل، ويصبح شغلهم الشاغل هو التطبيل لمن يدفع أو من يحكم، متناسين أن الخيانة لا تليق بالضمائر الحية، لكنها صارت عندهم وظيفة يومية يتقنونها بامتياز.

الغريب في هذا الواقع المؤلم، أن كل هذه الشخصيات تحولت من الهامش إلى الصدارة، من قاع المجتمع إلى واجهته، ساعدهم على ذلك إعلام غارق في السطحية، ومنصات تواصل لا ترى إلا الأرقام والمتابعات، ومجتمع فقد بوصلته وسط زحام المصالح والصراعات اليومية.

وبات من المألوف أن ترى شاشات التلفزيون تعج بالسرسجية متحدثين عن "الشرف"، وأن يتصدر المطبلاتي المشهد كناصح أمين، وأن يتحول الحبسجي إلى قدوة شبابية، بينما ينزوي أصحاب الفكر، ويتوارى أهل الاجتهاد، ويُكتم صوت الشرفاء.

إن الخطر لا يكمن في وجود هذه النماذج فقط، بل في ترسيخ ثقافتها، وفي تطبيع المجتمع معها، حتى يصبح البلطجي "جدع"، والمطبلاتي "مثقف"، والحبسجي "رجل مغامر"، وتغيب عن الأذهان معاني الأخلاق، والعمل، والاجتهاد، والطموح النظيف.

وللأسف، نحن في زمن يدفع فيه المجتمع بأبناءه دفعًا نحو هذه النماذج، عن طريق غياب القدوة، وضياع التربية، وغياب الإعلام الواعي، وتضليل الرأي العام، فتتحول التفاهة إلى ثقافة، والجهل إلى سياسة، والانحراف إلى موضة.

المجتمعات لا تنهض إلا بعقولها وأخلاقها، ولا تحفظ استقرارها إلا بقدوة صالحة، ولا تحصن شبابها إلا بالعلم والعمل، أما إذا بقي المشهد كما هو — الحبسجي نجم، السرسجي قدوة، المطبلاتي مرشد — فلن يكون الغد أفضل من اليوم، بل سيتسع الخرق على الراتق، وستبتلع التفاهة ما تبقى من قيم.

فهل آن الأوان أن نصحو؟
وهل سيسترد العقل مكانه من بين أنقاض هذا العبث؟