الإثنين 28 أبريل 2025 02:45 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. أحمد يوسف يكتب : حفلة تجريح

دكتور احمد يوسف
دكتور احمد يوسف

كتب رجاء النقاش مقالا جذابا وأخاذا عن يوسف إدريس وعن عبقريته وموهبته، وقلقه الوجودي العظيم، وافتتحه بمفارقة مؤلمة وهي أن الأهرام احتفلت 1961م بعيد ميلاد نجيب محفوظ الخمسين وحرصت على هذا الاحتفاء الذي دعت له شخصيات كبرى مثل توفيق الحكيم وكوكب الشرق أم كلثوم التي كانت أمنية نجيب محفوظ أن يلتقي بها وأن يصافحها، فلم يكن وقد بلغ الخمسين من العمر، وبلغت هي الثالثة والستين عاما أن جمعهما لقاء مع غرامه الكبير بغنائها وشخصيتها، وكان هيكل رئيس تحرير الأهرام هو حلقة الوصل بينهما، والمعبر عن توجه الدولة ومجتمع الفكر والعلم والثقافة نحو الاحتفاء بالقمم الكبرى، ولما بلغ يوسف إدريس شاطىء الخمسين من العمر في العام 1977م لم يلتفت إليه أحد، وشنت عليه الصحافة حملة تجريح مؤلمة خاضت في كل شيء، في فكره، ومواقفه، ووطنيته، وعقيدته، وأخلاقه وقيمه، وقاد هذه الحملة محمد إحسان عبد القدوس وخطط لها وجند الأصحاب والأعوان من كل اتجاه، فكتب رجاء النقاش هذا المقال" حفلة تجريح" قياسا على" حفلة تكريم" نجيب محفوظ في عيد ميلاده الخمسين، ونشره في مجلة الدوحة أول سبتمبر العدد التاسع 1977م.
وإذا كان رجاء النقاش قد أقام هذه المفارقة على التقابل بين استجابتين: استجابة مجتمع الفكر والعلم والثقافة في بداية النصف الثاني من القرن العشرين المتمثلة "في حفلة التكريم"، واستجابته قرب نهاية هذا القرن المتمثلة في "حفلة التجريح"، فإن هذا المجتمع نفسه قد أتلفه الهوى والتعصب وضيق الأفق وغشاوة الجهل بعد أن انتشرت فلول الظلام واستلمت راية العقل والعلم والثقافة تيارات تكره العلم وتعادي العقل وترهن الثقافة في استعادة أزمان مضت هي أزمان الأسلاف الذين أضفوا عليهم طوابع التوقير والانصياع لمقولاتهم ورفعوهم إلى مراتب التقديس والعصمة، وجعلوا ما تركوه من مدونات علما غير قابل للنقد ولا للمراجعة ولا للشك أو التأويل، ولذلك رجموا يوسف إدريس في عيد ميلاده الخمسين بأبشع التهم، كما رجموا كل من يخرج على أعراف أهل مدينة الاتباع والنقل والتسليم والانقياد.
ويحضرني في سياق هذه المفارقة ابن جرير الطبري (224-309 هجرية) صاحب التفسير الشهير وتاريخ الطبري وأحمد بن حنبل(164-241 هجرية) الإمام المعروف، فكلاهما من رجال القرن الثالث الهجري، وكلاهما من أعلام أهل السنة والجماعة وكلاهما علم وحده لا يقوم بغيره، وكلاهما إمام مشهود له في علمه: هذا في التفسير والتاريخ واللغة والأدب، وهذا في الحديث والفقه والأحكام، وكلاهما عاش عصر العلم والعقل والانفتاح على العلوم النقلية والوافدة، وتسييد أهل الاعتزال في عصر المأمون، لم يستسغ ابن حنبل القول بأن القرآن مخلوق، ولم يحترم أهل السلطة هذا الرأي ورأوا أن يفرضوا رأيا واحدا على كل العقول وهو القول بقدم القرآن، ومع أن هذه المسألة المتعلقة بذات الله وصفاته، مسألة تعددت فيها الآراء حسب مقتضيات التأويل، فإن أهل العقل وسلطة المأمون لم تحترم الاختلاف، ولا حرية الاعتقاد، و عاقبت الإمام أحمد بن حنبل بالسجن والضرب والإهانة، وعرف هذا العقاب في التاريخ الثقافي والسياسي بمحنة ابن حنبل، فالمحنة قوامها رفض الاعتداد بالاختلاف، ورفض حرية الاعتقاد، وتسييد الرأي الواحد.
وكان من المأمول أن يعي أتباع المذهب الحنبلي هذا الدرس، وألا يقعوا فيما وقع فيه خصومهم من أهل الاعتزال في زمن المأمون، فقد رأى الطبري أن أحمد بن حنبل ليس إماما واسع الانتشار مثل سابقيه مالك وأبي حنيفة، وأن مذهبه في القرن الثالث الهجري لم يتعد حدود العراق، وأنه من أهل الحديث، وليس من أهل الفقه، فعاقبه أنصار ابن حنبل عقابا عنيفا إذ فرضوا عليه حصارا منيعا لايدخل إليه أحد في بيته، ولا يخرج هو من بيته للقاء الناس، و ألصقوا به افتراء وبهتانا تهمة ألبت عليه العامة وفريقا من الخاصة وهي تهمة التشيع والاعتزال، فالتشيع كانت دولة بني العباس تحاربه وتحارب أهله، والاعتزال صار مسبة بعد زوال استنارة العقل في زمن المأمون والواثق.
وضرب الحنابلة على الطبري حصارهم المادي والمعنوي والأدبي وهو في سن متقدمة من العمر بما فيها من ضعف ووهن وذهاب النفوذ، وظلوا عليه قائمين حتى فارق الحياة وأجبروا أهله على دفنه في بيته، ومنعوا جمهور الناس من شيعته وتلاميذه من الصلاة عليه وحضور جنازته.
والأمر نفسه يتجدد ضد يوسف إدريس قرب نهاية القرن الرابع عشر الهجري، والعشرين الميلادي، أي بعد ما يقرب من ألف عام انقضت و انتقلت فيها حضارة الإنسان انتقالات كبرى عقلية وعلمية وحضاريةـ ولم ينتقل العقل النقلي عبر هذه القرون العشر، وظل على عهده لايفارقه، فقد اختلف إدريس وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود مع الشيخ متولي الشعراوي حول عدة مسائل اتصلت بالعلم والعقيدة فلم يقبلوا منه إغراق الذبابة في الإناء إذا سقطت فيه وشرب ما فيه لأن إغراقها يقتل ما بها من جراثيم وفيروسات، ولم يقبل منهم هذا التوجه الذي عده رفضا لحديث رسول الله، ولم يقبلوا منه اتهامه إياهم في عقيدتهم ودينهم وتوجههم العقلي والعلمي، وقد بلغ هذا الاتهام مبلغ الكفر والخروج من الملة، وما موقف الشيخ من الحكيم ببعيد بعد أن نشر الحكيم مقالاته بعنوان" حديث مع الله" فقد عقب الشيخ بقوله المنشور في جريدة اللواء مارس 1983م"لقد شاء الله سبحانه وتعالى ألا يفارق هذا الكاتب الدنيا إلا بعد أن يكشف للناس ما يخفيه من أفكار وعقائد، كان يتحدث بها همسًا ولا يجرؤ على نشرها، ولقد شاء الله ألا تنتهى حياته إلا بعد أن يضع كل خير عمله فى الدنيا حتى يلقى الله سبحانه وتعالى بلا رصيد إيماني"
إن تعقيب الشيخ تعقيب تجاوز الخلاف في الرأي والاجتهاد في الفهم، والرغبة في تنوير عقول القراء والأتباع، تجاوز كل ذلك إلى التفتيش في النوايا والضمائر، وإلى الحديث عن مشيئة الله في كشف المخفي والمستور في القلوب، وإلى تجريد المرء من إيمانه ومن كل سعي طيب قدمه طيلة حياته" حتى يلقى الله سبحانه وتعالى بلا رصيد إيماني". وكان من الأولى أن يكون هذا التجاذب بين الآراء حوارا بناء ينهض على دحض الرأي بالرأي والحجة بالحجة حتى يستبين الناس من جمهور الفريقين أي الآراء وأي الحجج أكثر قدرة على الإقناع واستجابة لمنطق الزمن الذي نحياه، ولكن الذي حدث أمر آخر، فهناك طرفان الأول يتوسل بنسبية المعرفة وتاريخية الاجتهاد واحترام منطق الزمن والعقل، والطرف الثاني يتوسل بالمطلق من المعرفة واحتكار الحقيقة وينكر تاريخية الاجتهاد ونسبية المعرفة، وينطلق من الظاهر المعروف إلى الخفي الباطن فيرمي الناس بإنكار الإيمان وارتداد كل من يخالفه عن دينه وخلقه.
يجرنا كل هذا إلى "حفلة التجريح" و"حفلة التكريم" وهما علامتان على إخراج الحوار العقلي والعلمي من دائرته النسبية إلى دوائر احتكار الحقيقة والأزمان السابقة أو الأزمان الآجلة والتحدث نيابة عنه سبحانه وتعالى عن ثوابه وعقابه وعدله ورحمته وجنته وناره وإرهاب الناس وإهدار قيمة التفكر والتدبر والاختلاف، ولقد تجلى كل ذلك فيما سبق مما قدمناه في هذا المقال، وتجلى أيضا وبقوة بين الفرقاء في معسكر واحد أعني معسكر الأزهر والأزاهرة.
فالأزهر معقل تاريخي للفكر السني والإسلام وهو صاحب الصدارة التي لاينازعه فيها معقل آخر، ويرتكن الأزهر على هذا الرصيد التاريخي العظيم من الفقه والحوار بين الفرق والجماعات ومناهج التفسير وأصول الدين.
ولكبار الأزاهرة من العلماء والمفكرين والدعاة والمصلحين مكانة أثيرة في قلوب المسلمين وغير المسلمين ومن أهل السنة ومن غيرهم، ولكن ما شاهدناه وعشناه من "حفلة تجريح" على غرار حفلات التجريح التي شنها الحنابلة على الطبري أمر يزعجنا ويخيفنا كل الخوف على مستقبل الفكر والحوار والعقل، فسعد الدين الهلالي أحد أعلام الأزاهرة في زمننا هذا وحضوره القوي على ساحات الفكر ودوائر الإعلام لايمكن اختزاله ولا نكرانه، وآراء الهلالي في مسائل الفقه الإسلامي يردها كلها إلى مصادرها في الفكر الفقهي الإسلامي عبر الأزمان والأماكن واختلاف البيئات وتغير الظروف والأحوال، ولم يعلن أبدا أن هذا الرأي أو ذاك هو رأيه النابع من اجتهاده. وحين يعرض لإحدى مسائل الفقه يقدم كل الآراء التي قيلت مشفوعة بأدلة أصحابها، ولا يخفي رأيا مهما يكن هذا الرأي، ثم إنه وهو يعرض كل الآراء في المسألة الواحدة لايرجح رأيا على رأي ويكتفي بالتبيين والتوضيح والإبلاغ ويدعو الناس وهم أصحاب المصلحة وهم المستهدفون إلى الأخذ بما يناسبهم ويناسب أحوالهم. فهو لايمثل سلطة ولا وصاية على أحد، ولايعنيه أن يخفي رأيا من الآراء ظنا منه أن الناس لم يبلغوا سن الرشد فيختار لهم أو يوجههم إلى رأي ما. والهلالي بذلك يؤكد أن الفقه والرأي الفقهي هو رأي صاحبه وانه رأي متغير حسب مقتضيات الأحوال والمصالح في كل زمن، وأن الرأي الفقهي ليس رأيا شرعيا، بل هو رأي فقهي والدليل أن المسألة الواحدة تتعدد فيها الآراء.
والهلالي بما قدم لا يختلف عن الأزاهرة في المجمل. فكل الأزاهرة عبر التاريخ يعودون إلى المصادر الفقهية المعروفة وينهلون منها، ويرجحون بين آراء المذاهب الفقهية، ثم يقدمون للناس في زمننا ما يرونه من رأي في مسألة من المسائل، واختلاف الهلالي عن الأزاهرة اختلاف نسبي، فهو يقدم كل الآراء الفقهية في المسألة الواحدة مشفوعة بالأدلة والأسانيد ولايوصي بالأخذ برأي من هذه الآراء لإيمانه أن العالم يفتح أبواب العلم الواسعة للناس وعليهم أن يختاروا ما يتفق مع ظروفهم وأحوالهم، وليس من حقه أن يكون وصيا عليهم فيقول لهم خذوا هذا واتركوا ذاك.
وهذا الاختلاف الجوهري قلب عليه كل المختلفين معه من الأزاهرة، ومن حقهم أن يختلفوا ولكن هل يستطيعون إنكار كل الآراء التي يكشف عنها في المسألة الواحدة؟ ولو فعلوا ذلك لأنكروا مصادر الفقه التي يعودون إليها كما يعود إليها الهلالي.
ولذلك لم ينكروا ما يقدمه الهلالي لكنهم تملكتهم صدمة عنيفة مما قدم من مساحات الاختيار، ولم يجدوا سبيلا لمواجهته إلا سبيل" حفلة التجريح" فأتوا على علمه، وخلقه، ودينه ووطنيته، ومكانته الاجتماعية، وقيمه ومواقفه وسلطوا عليه العامة والغوغاء من الناس مستغلين عواطفهم وغيرتهم الطائشة على الدين، فعلوا ذلك كما فعلوا مع الشيخ على عبدالرازق حين عجزوا عن الرد على كتابه" الإسلام وأصول الحكم" وحين عجزوا عن الرد على طه حسين وكتابه" في الشعر الجاهلي" فقد جردوا هذا وذاك من كل فضيلة والتاريخ المعاصر مليء بأمثال" حفلة التجريح" التي تعد تقليدا تاريخيا ممتدا منذ البداية حتى الآن.
فمتى نجد" حفلة تكريم"؟ ومتى نعود إلى الرشد والاعتدال واحترام الاختلاف؟ وننأى بأنفسنا عن الاغتيال المعنوي والأدبي الذي قد يفضي إلى الاغتيال الجسدي على نحو ما حدث مع نجيب محفوظ، وفرج فودة؟