المستشار بهاء المري يكتب : القضاء وحرية الفكر قضية طعن طه حسين في القرآن الكريم ونَسَب النبي ﷺ أنموذَجًا


كانت قضية كتاب الدكتور طه حسين: "في الشعر الجاهلي" من أشهر القضايا التي شغلت الرأي العام في مصر – 1926 - بشكل منقطع النظير، إذ نُسب إليه الطعن الصريح في القرآن الكريم، ونَسَب النبي ﷺ. بل كانت من أخطر قضايا الفكر. انتفض لها المجتمع بكل أوساطه، الدينية والعلمية والفكرية، بل والبرلمان ومجلس الوزراء، يطالبون بمحاكمة هذا المفكر، بل وتجريده من شهاداته العلمية.
وكان أهم ما في أحداثها، هو موقف القضاء المصري العظيم متمثلا في النيابة العامة، فلم يَرها – القضاء - كما رآها مَن تعامَلوا مع فِكر هذا الرجل ككافر أو مُلحد، وإنما رآها بعين المؤمِن بحرية الفِكر والإبداع، وهو ما يؤكد أن القضاء كان دائمًا مُلمًا بقضايا عصره، الفكرية، والثقافية، والعلمية، والاجتماعية، والسياسية، فأمرت بحفظ الأوراق إداريًا، مستندة إلى أسباب أوردتها وهي تُفند أدلة الاتهام، مما يُعد من أروع نماذج الأدب القضائي الخالد.
البلاغات:
---------
بلاغ من الطالب الأزهري حسنين مخلوف:
--------------------------------------------------
بدأت وقائع الدعوى ببلاغ تقدم به الشيخ حسنين مخلوف، الطالب بالقسم العالي بالأزهر لسعادة النائب العمومي في 30 مايو 1926 يتهم فيه الدكتور طه حسين، بأنه ألَّفَ كتابًا أسماه "في الشعر الجاهلي" ونشره على الجمهور، فيه طعن صريح في القرآن العظيم، حيث نسبَ الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم.
بلاغ من شيخ الأزهر:
-------------------------
لم يقف الأمر عند حد هذا البلاغ، بل تلاه بلاغ آخر أرسله فضيلة شيخ الجامع الأزهر لسعادة النائب العمومي بتاريخ 5 يونيو سنة 1926 وقد أرفق به تقريرا رفعه علماء الجامع الأزهر عن الكتاب ذاته، نسب فقيه لطه حسين أنه في كتابه هذا: "كذب القرآن الكريم صراحة، وطعن فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نسبه الشريف، وأهاج بذلك ثائرة المتدينين، وأتى فيه بما يخل بالنظم العامة ويدعو الناس للفوضى، وذلك لاتخاذ اللازم قانونا ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمي، وتقديم مؤلف الكتاب للمحاكمة الجنائية.
بلاغ من عضو مجلس النواب:
----------------------------------
بتاريخ 14 سبتمبر من العام ذاته تقدم "عبد الحميد البنان" أفندى عضو مجلس النواب ببلاغ آخر، ذكر فيه أن الأستاذ طه حسين المدرس بالجامعة المصرية، نشر ووزع وعرض للبيع في المحافل والمحلات العمومية، كتابا أسماه "في الشعر الجاهلي" طعن فيه وتعدى بعبارات صريحة على الدين الإسلامي وهو دين الدولة.
الاتهامات:
------------
أولا: أن المؤلف أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن الكريم في إخباره عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، حيث ذكر أن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخي، وأن في قصة هجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المُستعربة فيها، نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهود والقرآن من جهة أخرى".
ثانيا: يزعم أن القراءات السبع المُجمع عليها لم تنزل من عند الله، وإنما قرأتها العرب حسب ما استطاعت، لا كما أوحى الله بها إلى نبيه ﷺ.
ثالثا: أنه طعن في كتابه على النبي ﷺ من حيث نَسبه، فقال إن تعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه إلى قريش، فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم.
رابعا: أنه أنكر أن للإسلام أولية في بلاد العرب، وأنه دين إبراهيم، يقول: "وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده، فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم، ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا، كان دين العرب في عصر من العصور، ثم أعرَضَت عنه لما أضلها به المُضلون وانصرفت عنه إلى عبادة الأوثان".
رأى النيابة العامة:
--------------------
بعد أن محصت النيابة الأوراق عن بصر وبصيرة بفكر واع مستنير، قالت:
"إن العبارات التي يقول المبلغون إن فيها طعنًا على الدين الإسلامي، إنما جاءت في سياق الكلام على موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذي ألف من أجله، ومن ثم لا يجوز انتزاعها من موضوعها والنظر إليها منفصلة، وإنما الواجب هو بحثها حيث هي من الكتاب، ومناقشتها في السياق الذي وردت فيه، وبذلك يمكن الوقوف على قصد المؤلف منها وتقدير مسئوليته تقديرا صحيحا".
تحليل ما ادعاه المؤلف:
---------------------------
استطردت النيابة تحلل: فقالت عن الأمر الأول: "وهو التشكيك في الوجود التاريخي لإبراهيم وإسماعيل، وأن الشعر الجاهلي بعيد عن اللغة العربية" فإن المؤلف بعد أن تكلم في كتابه على أن الشعر المقال بأنه جاهلي لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين، وأن هذا الشعر بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه.
ولكى يدلل على ذلك، فقد اجتهد في تعريف اللغة الجاهلية، فقال إن الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه، هو أن العرب ينقسمون إلى قسمين، القسم الأول هم القحاطنة، ومنازلهم في اليمن، وهم عرب فطروا على العربية، فهم العرب العاربة، والقسم الثاني، هم العدنانية ومنازلهم في الحجاز، واكتسبوا العربية بعد أن كانوا يتكلمون العبرانية أو الكلدانية، والعدنانية المستعربة إنما يتصل نسبها بإسماعيل بن إبراهيم ، وهم يروون حديثا يتخذونه أساسا لكل هذه النظرية خلاصته أن أول من تكلم العربية ونسى لغة أبيه هو إسماعيل بن إبراهيم.
ثم قال بعد ذلك: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي". ثم أراد المؤلف أن يوهم بأن لرأيه أساسا فقال: "ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية من جهة أخرى، وأن قصة العاربة والمستعربة وتعلم إسماعيل العربية من جُرهم كل ذلك أحاديث أساطير".
الحجج التي ساقتها النيابة العامة في هذا السياق:
-----------------------------------------------------------
لقد انتقدت النيابة العامة هذا المنهج الذي انتهجه طه حسين في بحث مسألة اللغة، والوجود التاريخي لسيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل فقالت:
(1) إن مؤلف الكتاب خرج من بحثه هذا، عاجزا عن الوصول إلى غرضه الذي عقد هذا الفصل من أجله، وهو التدليل على أن الشعر الجاهلي بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذى يزعم الرواة أنه قيل فيه، وبديهي أنه للوصول إلى هذا الغرض يتعين على الباحث تحضير ثلاثة أمور:
1- الشعر الذي يريد أن يبرهن على أنه منسوب بغير حق للجاهلية.
2- الوقت الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه.
3- اللغة التي كانت موجودة فعلا في الوقت المذكور.
وبعد أن تتهيأ له هذه المواد، يجري عملية المقارنة، فيوضح الاختلافات الجوهرية بين لغة الشعر وبين لغة الزمن الذي روي أنه قيل فيه، ويستخرج بهذه الطريقة الدليل على صحة ما يدعيه.
ولكن الأستاذ (أي الدكتور طه حسين) تطرق في بحثه إلى الكلام على مسائل في غاية الخطورة، صدم بها الأمة الإسلامية في أعز ما لديها من الشعور، ولوث نفسه بما تناوله من البحث في هذا السبيل بغير فائدة، ولم يوَفق إلى الإجابة، ومن ثم يكون المؤلف في واحدة من اثنتين: إما أن يكون عاجزا، وإما أن يكون سيئ النية، بحيث قد جعل هذا البحث ستارا ليصل بواسطته إلى الكلام في تلك المسائل الخطيرة.
(2) ما قاله المؤلف من أن نظرية تعلم إسماعيل وأولاده العربية من جُرهم لو كانت صحيحة، لوجب أن تكون لغة المتعلم كلغة المعلم، فهذا الاعتراض وجيه في ذاته، ولكنه لا يفيد في التدليل على صحة رأيه، لأنه نسي أمرا مهما، وهو مرور زمن طويل من الوقت الذي يروي أن إسماعيل تعلم فيه اللعة العربية من جُرهم، إلى الوقت الذي اختاره المؤلف للمقارنة بين اللغتين، زمن يتعذر تحديده، فهل يريد المؤلف مع هذا أن يتخذ الاختلافات التي بين اللغتين دليلا على عدم صحة نظرية الرواة، ذلك أنه إذا ما ثبت وجود خلاف مهما كان مداه بين اللغتين، فإن هذا لا ينفي صحة الرواية التي يرويها الرواة، من حيث تعلم إسماعيل العربية من جُرهم.
أوردت النيابة مقاطع من التحقيقات تؤازر رؤيتها فقالت:
-------------------------------------------------------------------
وليس أدل على عجز المؤلف عن إثبات ما يقصد، من أن نذكر هنا ما دار في التحقيق من المناقشة بشأن هذه المسألة:
س - هل يمكن لحضرتكم أن تبينوا لنا المراجع أو تقدموها لنا؟
ج - أنا لا أقدم شيئا.
س - هل يمكن لحضرتكم أن تبينوا إلى أي وقت كانت موجودة اللغة الحميرية ومبدأ وجودها إن أمكن؟
ج - مبدأ وجودها ليس من السهل تحديده، ولكن لا شك في أنها كانت معروفة، تكتب قبل القرن الأول للمسيح، وظلت تتكلم إلى ما بعد الإسلام، ولكن ظهور الإسلام وسيادة اللغة القرشية، محوا غيرها من اللغات المختلفة في البلاد العربية وغير العربية، وأقرّا مكانهما لغة القرآن.
س - هل تعتقدون حضرتكم أن اللغة سواء كانت اللغة الحميرية أو اللغة العدنانية، كانت باقية على حالها من وقت نشأتها، أو حصل بها تغيير بسبب تمادي الزمن والاختلاط؟
ج - ما أظن أن لغة من اللغات تستطيع أن تبقى قرونا دون أن تتطور ويحصل فيها التغيير الكثير.
ويضيف رئيس النيابة محمد نور بك: نحن مع هذا لا نريد أن ننفي وجود اختلاف بين اللغتين ولا نقصد أن نعيب على المؤلف جهله بهذه الأمور، فإنها في الحقيقة ما زالت من المجاهل، ومع ذلك يقرر بجرأة أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية، ولا يمكن أن يكون صحيحا، ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئا كثيرا من الشعر الجاهلي، قوما ينتسبون إلى عرب اليمن، التي تتكلم لغة غير لغة القرآن الكريم. إن الأستاذ حرَّف في الرواية عمدا ليصل إلى تقرير هذه النتيجة.
والمؤلف لا يستطيع أن ينكر الاختلاط الذي لا بد منه بين القبائل المختلفة، خصوصا في أمة متنقلة بطبيعتها كالأمة العربية، ولا بد لها جميعا من لغة عامة تتفاهم بها هي اللغة الأدبية، وقد أشار هو بنفسه إليها في صـ17 من كتابه حيث قال عن القرآن: "ولكنه كان كتابا عربيا، لغته هي اللغة العربية الأدبية، التي كان يصطنعها الناس في عصره، أي في العصر الجاهلي. وهذه اللغة الأدبية هي لغة الكتابة ولغة الشعر.
والمؤلف نفسه عندما تكلم في الفصل الخامس عشر عن الشعر الجاهلي واللهجات بحث في صـ 35، 36، 37 بحثا يؤيد هذا المعنى، وإن كان يدعي بغير دليل أن الإسلام قد فرض على العرب جميعا لغة عامة واحدة هي لغة قريش، مع أنه سبق أن ذكر في صـ 17 أن لغة القرآن هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره، أي في العصر الجاهلي، فلِم لا تكون لهذه اللهجة الأدبية السيادة العامة من قبل نزول القرآن بزمن طويل؟ وكيف يستطيع هو هذا التحديد وعلام يستند؟
النيابة تبين خطأ المؤلف:
-----------------------------
أوضح رئيس النيابة خطأ المؤلف حين راح يفترض تخيلا ثم يُركب عليه قواعد كأنها حقائق فقال:
يتضح مما تقدم، أن عدم ظهور خلاف في اللغة لا يدل في ذاته حتما على عدم ظهور صحة الشعر، ونحن لا نريد بما قدمنا أن نتولى الدفاع عن صحة الشعر الجاهلي، إذ أن هذه المسألة ليست حديثة العهد ابتدعها المؤلف، وإنما هي مسألة قديمة قررها أهل الفن والشعر كما قال (ابن سلاّم) صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات، وهو يحتاج في تمييزه إلى خبير كاللؤلؤ والياقوت لا يُعرف بصنعة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره.
ولكن الذي نريد أن نشير إليه إنما هو الخطأ الذي اعتاد أن يرتكبه المؤلف في أبحاثه، حيث بدأ بافتراض يتخيله، ثم ينتهي بأن يُركب عليه قواعد كأنها حقائق ثابتة، كما فعل في أمر الاختلافات بين لغة حمير وبين لغة عدنان، ثم مسألة إبراهيم وإسماعيل، وهجرتهما إلى مكة وبناء الكعبة إذ بدأ فيها بإظهار الشك ثم انتهى باليقين.
بدأ بقوله: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها".
إلى هنا أظهَر الشك لعدم قيام الدليل التاريخي في نظره، كما تتطلبه الطرق الحديثة، ثم انتهى بأن قرر في كثير من الصراحة: إن ضعف هذه القصة إذن واضح، فهي حديثة العهد ظهرت قبل الإسلام لسبب ديني ..... الخ، فما هو الدليل الذي انتقل به من الشك إلى اليقين؟
هل دليله هو قوله: "نحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود وبين العرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى؟ وأن أقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو ذلك العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويبنون فيه المستعمرات.. إلخ، وأن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب، قد اقتضى أن نثبت الصلة بين المدن الجديدة وبين ديانتي النصارى واليهود، وأنه مع ثبوت الصلة الدينية يحسن أن تؤيدها صلة مادية ...إلخ".
إذا كان الأستاذ المؤلف يرى أن ظهور الإسلام قد اقتضى أن تَثبت الصلة بينه وبين ديانتي اليهود والنصارى، وأن القرابة المادية الملفقة بين العرب واليهود لازمة لإثبات الصلة بين الإسلام واليهودية، فاستغلها لهذا الغرض، فهل له أن يبين السبب في عدم اهتمامه أيضا بمثل هذه الحيلة لتوثيق الصلة بين الإسلام والنصرانية؟ وهل عدم اهتمامه هذا، معناه عجزه أو استهانته بأمر النصرانية؟ وهل من يريد توثيق الصلة مع اليهود بأي ثمن، حتى باستغلال التلفيق، هو الذي يقول عنهم في القرآن "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا". إن الأستاذ ليَعجز عن تقديم هذا البيان إذ أن كل ما ذكره في هذه المسألة إنما هو خيال في خيال.
وانظر أيضا مدى وعي النيابة العامة في استبيان ضعف ووهن أدلة المؤلف حين قالت عنها:
----------------------------------------------------------------------------------
إن كل ما استند إليه – أي الدكتور طه حسين - من أدلة هو:
1- فليس ببعيد أن يكون ...
2- فما الذي يمنع ...
3- ونحن نعتقد ...
4- وإذن فليس ما يمنع قريشا من أن تقبل هذه الأسطورة.
5- وإذن فنستطيع أن نقول!
فالأستاذ المؤلف في بحثه إذا رأى إنكار الشيء يقول لا دليل على الأدلة التي تتطلبها الطرق الحديثة للبحث حسب الخطة التي رسمها في منهج البحث، وإذا رأى تقرير أمر لا يُدلل عليه بغير الأدلة التي أحصيناها له وكفى بقوله حجة.
سُئل الأستاذ في التحقيق عن أصل هذه المسألة "أي تلفيق القصة" وهل هي من استنتاجه أو نقلها، فقال:
"فرض فرضته أنا، دون أن أطلع عليه في كتاب آخر، وقد أخبرت بعد أن ظهر الكتاب أن شيئا من هذا الفرض يوجد في بعض كتب المبشرين، ولكن لم أفكر فيه حتى بعد ظهور كتابي".
على أنه سواء كان الفرض من تخيله كما يقول، أو من نقله عن ذلك المبشر الذي يستتر تحت اسم (هاشم العربي) فإنه كلام لا يستند إلى دليل ولا قيمة له، على أننا نلاحظ أن ذلك المبشر مع ما هو ظاهر من مقاله من غرض الطعن على الإسلام، كان في عباراته أظرف من مؤلف كتاب الشعر الجاهلي، لأنه لم يتعرض للشك في وجود إبراهيم وإسماعيل بالذات، وإنما اكتفى بأن أنكر أن إسماعيل أبو العرب العدنانيين، وقال إن حقيقة الأمر في قصة إسماعيل، غنها دسيسة لفقها قدماء اليهود للعرب تزلفا إليهم، إلخ. كما نلاحظ أيضا أن ذلك المبشر قد يكون له عذره في سلوك هذا السبيل، لأن وظيفته التبشير لدينه، وهذا غرضه الذي يتكلم فيه، ولكن ما عذر الأستاذ المؤلف في طرق هذا الباب، وما هي الضرورة التي ألجأته إلى أن يرى في هذه القصة نوعا من الحيلة...إلخ.
وإن كان المتسامح يرى له بعض العذر في التشكيك الذي أظهره أولا اعتمادا على عدم وجود الدليل التاريخي كما يقول، فما الذي دعاه إلى أن يقول في النهاية بعبارة تفيد الجزم: "إن هذه القصة إذن واضحة فهي حديثة العهد، ظهرت قبيل الإسلام، واستغلها الإسلام لسبب ديني واضح ...إلخ" مع اعترافه في التحقيق بأن المسألة فرض افترضه.
يقول الأستاذ إنه إن صح افتراضه، فإن القصة كما كانت شائعة بين العرب قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام استغلها، وليس ما يمنع أن يتخذها الله في القرآن وسيلة لإقامة الحجة على الخصوم المسلمين، كما اتخذ غيرها من القصص التي كانت معروفة وسيلة إلى الاحتجاج أو إلى الهداية. وهاشم العربي يقول في مثل هذا: ولما ظهر محمد، رأى المصلحة في إقرارها فأقرها، وقال للعرب إنه يدعوهم إلى ملة جدهم هذا، الذي يعظمونه من غير أن يعرفوه، فسبحان من أوجد هذا التوافق بين الخواطر.
إن الأستاذ المؤلف أخطأ فيما كتب، وأخطأ أيضا في تفسير ما كتب وهو في هذه النقطة قد تعرض بغير شك لنصوص القرآن، وليس في وسعه الهرب بادعائه البحث العلمي منفصلا عن الدين.
تساؤلات النيابة العامة تُحرج الباحث:
--------------------------------------------
قال رئيس النيابة محمد نور في أسباب قراره بالحفظ: فليفسر لنا إذن (أي الدكتور طه حسين) قوله تعالى في سورة النساء: "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان ...إلخ" وقوله في سورة مريم : "واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صدّيقا نبيا" و"اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا" وفي سورة آل عمران "قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" وغير ذلك من الآيات القرآنية الكثيرة التي ورد فيها ذكر إبراهيم وإسماعيل، لا على سبيل المثال كما يدعي حضرته.
وهل عقل الأستاذ سلَّم بأن الله سبحانه وتعالى يذكر أن إبراهيم نبي وأن إسماعيل رسول نبي مع أن القصة ملفقة، وماذا يقول حضرته في موسى وعيسى، وقد ذكرهما الله سبحانه وتعالى في الآية الأخيرة مع إبراهيم وإسماعيل، وقال في حقهم جميعا لا نفرق بين أحد منهم، وهل يرى حضرته أن قصة موسى وعيسى من الأساطير أيضا، قد ذكرها الله وسيلة للاحتجاج أو للهداية كما فعل في قصة إبراهيم وإسماعيل، ما دامت الآية تقضي بألا نفرق بين أحد منهم؟!
تخبط الطائش:
------------------
يضيف رئيس النيابة في أسباب قراره: الحق أن المؤلف في هذه المسألة يتخبط تخبط الطائش، ويكاد يعترف بخطئه لأن جوابه يشعر بهذا عندما سألناه في التحقيق، عن السبب الذي دعاه أخيرا لأن يقرر بطريقة تفيد الجزم، بأن القصة حديثة العهد،، ظهرت قبيل الإسلام فقال في صــ 37 من محضر التحقيق: "هذه العبارة إذا كانت تفيد الجزم، فهي إنما تفيده إن صح الفرض الذي قامت عليه، وربما كان فيها شيء من الغلو، ولكني أعتقد أن العلماء جميعا عندما يفترضون فروضا علمية، يبيحون لأنفسهم مثل هذا النحو من التعبير، فالواقع أنهم مقتنعون فيما بينهم وبين أنفسهم بأن فروضهم راجحة".
والذي نراه أن موقف الأستاذ هنا لا يختلف عن موقف الأستاذ (هوار) حين تكلم عن شعر أمية بن أبي الصلت وقد وصف المؤلف نفسه هذا الموقف صـ 82، 83 من كتابه بقوله: "مع أني من أشد الناس إعجابا بالأستاذ (هوار) وبطائفة من أصحابه المستشرقين، وبما ينتهون إليه في كثير من الأحيان من النتائج العلمية القيمة في تاريخ الأدب العربي التي يتخذونها للبحث، فإني لا أستطيع أن أقرأ مثل هذا الفصل دون أن أعجب كيف يتورط العلماء أحيانا في مواقف لا صلة بينها وبين العلم".
حقا إن الأستاذ قد تورط في هذا الموقف، الذي لا صلة بينه وبين العلم، بغير ضرورة يقتضيها بحثه، ولا فائدة يرجوها، لأن النتيجة التي وصل إليها من بحثه وهي قوله: "إن الصلة بين اللغة العدنانية وبين اللغة القحطانية، كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة، وأن قصة العاربة والمستعربة وتعلم إسماعيل العربية من جرهم كل ذلك حديث أساطير لا خطر له ولا غناء فيه" ما كانت تستدعي التشكيك في صحة إخبار القرآن عن إبراهيم وإسماعيل وبنائهما الكعبة ثم الحكم بعدم صحة القصة وباستغلال الإسلام لها لسبب ديني.
ونحن لا نفهم كيف أباح المؤلف لنفسه أن يخلط بين الدين وبين العلم، وهو القائل بأن الدين يجب أن يكون بمعزل عن هذا النوع من البحث، الذي هو بطبيعته قابل للتغيير والنقص والشك والإنكار (صـ 22 من محضر التحقيق) وإننا حيث نفصل بين العلم والدين نضع الكتب السماوية موضع التقديس، ونعصمها من إنكار المنكرين، وطعن الطاعنين (صـ 24 من محضر التحقيق) ولا ندري لم يفعل غير ما يقول في هذا الموضوع.
لقد سئل في التحقيق فقال: "إن الداعي أني أناقش طائفة من العلماء والأدباء والقدماء والمحدثين، وكلهم يقرون بأن العرب المستعربة أخذوا لغتهم عن العرب العاربة بواسطة إسماعيل بعد أن هاجر، وهم جميعا يستدلون على آرائهم بنصوص من القرآن ومن الحديث، فليس لي بد من أن أقول لهم إن هذه النصوص لا تلزمني من الوجهة العلمية".
النيابة تقرر حقائق لا جدال فيها ولا مجال لاجتهاد فتقول:
--------------------------------------------------------------------
عن الأمر الأول:
------------------
أما الثابت من نصوص القرآن، في قصة الهجرة وبناء الكعبة، ليس في القرآن نصوص يُستدل بها عن تقسيم العرب إلى عاربة ومستعربة، وعلى أن إسماعيل أبو العرب العدنانيين، ولا على تعلم إسماعيل العربية من جرهم، ونص الآية التي أثبتت الهجرة: "ربنا إني أسكنتُ من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون". لا يفيد غير إسكان ذرية إبراهيم في وادي مكة، أي أن إسماعيل هو جُرهم صغير (كنص الحديث) إلى هذا الوادي، فنشأ بين أهله وهم العرب وتعلم هو وأبناؤه لغة من نشأوا بينهم وهي العربية، لأن اللغة لا تولد مع الإنسان وإنما تكتسب اكتسابا، وقد اندمجوا في العرب فصاروا منهم وهذا الاندماج لا يترتب عليه أن يكون جميع العرب العدنانيين من ذريته، وهو ما لم يقل به أحد.
ويا ليت الأستاذ المؤلف حذا حذو ذلك المبشر (هاشم العربي) في هذه المسالة حيث قال: "ولا إسماعيل نفسه باب العرب المستعربة، ولا تملك أحد من بنيه على أمة من الأمم، وإنما قصارى أمرهم أنهم دخلوا وهم عدد قليل من قبائل العرب العديدة المجاورة لمنازلهم فاختلطوا بها وما كانوا منها إلا كعصاة في فلاة" راجع صــ 356 من كتاب مقالة في الإسلام.
ولو أن المؤلف فعل هذا لنجا من التورط في هذا الموضوع، أما مسالة بناء الكعبة، فلم يفهم الحكمة في نفيها، واعتبرها أسطورة من الأساطير اللهم إلا إذا كان مراده إزالة كل أثر لإبراهيم وإسماعيل، ولكن ما مصلحة المؤلف من هذا ؟ الله أعلم بمراده.
عن الأمر الثاني: (وهو القراءات السبع) قالت النيابة العامة:
---------------------------------------------------------------------
من حيث إن المبلغين ينسبون إلى المؤلف أنه زعم: "عدم إنزال القراءات السبع المجمع عليها والثابتة لدى المسلمين جميعا" ويقول إن هذه القراءات "إنما قرأتها العرب حسب ما استطاعت لا كما أوصى الله بها إلى نبيه، مع أن معاشر المسلمين يعتقدون أن كل هذه القراءات مروية عن الله تعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وأن [ما] تجده فيها من إمالة وفتح وإدغام وفك ونقل كله منزل من عند الله تعالى.
استدلوا على هذا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرأني جبريل على حرفن فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف) وعلى قوله صلى الله عليه وسلم لما تحاكم إليه سيدنا عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم بسبب ما ظهر من الاختلاف بين قراءة كل منهما قال: (هكذا أنزل وإن القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه).
وقالوا إن الحديث حديث وإن كان غير متواتر من حيث السند، أي أنه متواتر من حيث المعنى، وحيث إنه يجب أن يلاحظ قبل الكلام عبارة المؤلف أن حديث: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) قد ورد من رواية نحو عشرين من الصحابة لا بنصه ولكن بمعناه. وقد حصل اختلاف كثير في المراد بالأحرف السبعة، فقال بعضهم إن المراد بالأحرف السبعة الأوجه التي يقع بها الاختلاف في القراءة (راجع كتاب البيان لطاهر بن صالح بن أحمد الجزائري طبعة المنار صـ 37، 38) وقال بعضهم إنها أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة نحو: (أقبل وهلم وتعال وعجل وأسرع وانظر وأخر وأمهل ونحوه) (راجع صـ 39ـ وما بعدها من الكتاب المذكور) وقال بعضهم إنها أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل (صـ 47) وقال بعضهم إنها سبع لغات متفرقة في القرآن لسبعة أحياء من قبائل العرب مختلفة الألسن (صـ 49) وقال بعضهم إن المراد بالسبعة الأحرف سبعة أوجه في أداء التلاوة وكيفية النطق بالكلمات التي فيها من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق وإمالة وإشباع ومد وقصر وتشديد وتخفيف وتليين، لأن العرب كانت مختلفة اللغات في هذه الوجوه فيَسر الله عليهم ليقرأ كل إنسان بما يوافق لغته ويسهل على لسانه (صـ 59) وقال غيرهم خلاف ذلك.
وقد قال (الحافظ أو حاتم بن حيان البستي): اختلف أهل العلم في معنى الأحرف السبعة في خمسة وثلاثين قولا (صـ 59، 60) وقال الشريف المرسي: (الوجوه أكثرها متداخلة ولا أدري مستندها ولا عمن نقلت) إلى أن قال: (وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها القراءات السبع وهو جهل قبيح، صـ 61. وقال بعضهم هذا الحديث من المشكل الذي لا يدري معناه، وقال آخر والمختار عندي أنه من المتشابه الذي لا يدري تأويله).
ورأى (أبو جعفر محمد بن جرير الطبري) صاحب التفسير الشهير في معنى هذا الحديث، إنه أنزل بسبع لغات، وينفي أن يكون المراد بالحديث القراءات، لأنه قال فأما ما كان من اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ونصبه وتسكين حرف وتحريكه ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف) بمعزل، لأنه معلوم أنه لا حرف من حروف القرآن مما اختلفت القراءة في قراءته بهذا المعنى، يوجب المراء به، كفر المماري به في قول أحد من علماء الأمة (راجع الجزء الأول من تفسير القرآن للطبري صـ 23 طبعة المطبعة الأميرية).
والمؤلف قد تعرض لهذه المسألة في الفصل الخامس الذي عنوانه (الشعر الجاهلي واللهجات) حيث تكلم عن عدم ظهور اختلاف في اللهجة (يريد باللهجة هنا الاختلافات المحلية في اللغة الواحدة أو ما يسميه الفرنسيون "Dialcte" أو تباعد في اللغة، أو تباين في مذهب الكلام مع أن لكل قبيلة لغتها ومذهبها في الكلام، وهو يريد بذلك أن يدلل على أن الشعر الذي لم يظهر فيه أثر لهذه الاختلافات، لم يصدر عن هذه النقطة. قال إن القرآن الذي تلى بلهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعددت اللهجات فيه وتباينت تباينا كثيرا، جد القراء والعلماء المتأخرون في ضبطه وتحقيقه وأقاموا له علما أو علوما خاصة، وقد أشار بإيضاح إلى ما يريده من الاختلاف في القراءات فقال: "إنما يشير إلى اختلاف آخر يقبله العقل ويسيغه النقل، وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها، لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي وعشيرته من قريش، فقرأته كما كانت تتكلم، فأمالت حيث لم تكن تميل، ومدت حيث لم تكن تمد، وقصرت حيث لم تكن تقصر، وسكنت حيث لم تكن تسكن، وأدغمت أو أخفت أو نقلت حيث لم تكن تدغم ولا تخفي ولا تنتقل" .
إنصاف النيابة للمؤلف في مسألة القراءات السبع:
---------------------------------------------------------
لقد رأت النيابة العامة أن المؤلف لم يشكك في كونها (أي القراءات السبع) منزلة من عند الله أم غير منزلة، ولكنه يرى أن تعددها هو مما تقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين القبائل. ووصفت اجتهاده في ذلك بأنه بحث علمي لا تعارض بينه وبين الدين فقالت:
فالمؤلف لم يتعرض بقضية القراءات من حيث إنها منزلة أو غير منزلة، وإنما قال كثرت القراءات وتعددت اللهجات، وقال إن الخلاف الذي وقع في القراءات تقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب، التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها، فهو بهذا يصف الواقع، وإن صح رأي من قال إن المقصود بالأحرف السبعة هو القراءات السبع، فإن هذه الاختلافات التي كانت واقعة فعلا كانت طبعا هي السبب الذي دعا إلى الترخيص للنبي صلى الله عليم وسلم بأنه يقرئ كل قوم بلغتهم حيث قال صلى الله عليه وسلم : (إنه قد وسع لي أن أقرئ كل قوم بلغتهم) قال أيضا : (أتاني جبريل فقال اقرأ القرآن على حرف واحد فقلت إن أمتي لا تستطيع ذلك حتى قال سبع مرات فقال لي اقرأ على سبعة أحرف إلخ) ، وإن لم يصح هذا الرأي فإن نوع القراءات الذي عناه المؤلف إنما هو من نوع ما أشار إليه (الطبري) بقوله بمعزل عن قول النبي صلى الله عليه وسلمك (أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف) لأنه معلوم أنه لا حرف من حروف القرآن مما اختلفت القراءة في قراءته بهذا المعنى يوجب المراء به كفر المماري به في قول أحد من علماء الأمة ، ونحن نرى أن ما ذكره المؤلف في هذه المسألة هو بحث علمي لا تعارض بينه وبين الدين لا اعتراض لنا عليه.
عن الأمر الثالث: وهو ادعاء الطعن في نسب النبي صلى الله عليه وسلم:
---------------------------------------------------------------------------
تفهمت النيابة العامة مقصد المؤلف من مسألة انتحال الشعر، ورأت أنه كان يقصد بالانتحال في بعض الأطوار إلى إثبات صحة النبوة وصدق النبي، ولكنها لاحظت عليه أنه تكلم فيما يختص بأسرة النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه في قريش بعبارة خالية من كل احترام، بل وبشكل تهكمي غير لائق، ولا يوجد في بحثه ما يدعوه لإيراد العبارة على هذا النحو فقالت:
من حيث إن حضرات المبلغين ينسبون للأستاذ المؤلف إنه طعن في كتابه النبي صلى الله عليه وسلم طعنا فاحشا، من حيث نسَبه قال في صـ 72 منه: "ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسَبه إلى قريش، فلأمر ما، اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون عبد مناف صفوة بني قصي، وأن يكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مُضَر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها". قالوا إن تعدي المؤلف بالتعريض بنسَب النبي صلى الله عليه وسلم، وتحقير من قدره، تَعدٍ على الدين، وجُرم عظيم، يسيء إلى المسلمين والإسلام، فهو قد اجترأ على أمر لم يسبقه إليه كافر ولا مشرك.
المؤلف أورد هذه العبارة في كلامه (على الدين وانتحال الشعر) والأسباب التي يعتقد أنها دعت المسلمين إلى انتحال الشعر، وأنه كان يقصد بالانتحال في بعض الأطوار إلى إثبات صحة النبوة وصدق النبي وكان هذا النوع موجها إلى عامة الناس.
وقال بعد ذلك: والغرض من هذا الانتحال - على ما يرجح - إنما هو إرضاء حاجات العامة الذين يريدون المعجزة في كل شيء، ولا يكرهون أن يقال لهم إن من دلائل صدق النبي في رسالته أنه كان منتظرا قبل أن يجيء بدهر طويل، ثم وصل إلى ما يتعلق بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسَبه في قريش.
ونحن لا نرى اعتراضا على بحثه على هذا النحو من حيث هو، إنما كل ما نلاحظه عليه أن تكلم فيما يختص بأسرة النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه في قريش بعبارة خالية من كل احترام بل وبشكل تهكمي غير لائق ولا يوجد في بحثه ما يدعوه لإيراد العبارة على هذا النحو.
عن الأمر الرابع: وهو إنكار المؤلف أن الإسلام دين إبراهيم:
---------------------------------------------------------------------
فقد تجلت رَصانة فكر النيابة العامة في استخلاص حقيقة ما يبغى المؤلف من هذا القول، ورأت أنه استمرار في بحث بيان أسباب انتحال الشعر من حيث تأثير الدين على الانتحال، ودللت على ذلك بما قرره المؤلف في التحقيقات من أنه لم ينكر أن الإسلام دين إبراهيم، فقال رئيس النيابة محمد نور بك في إيضاح ذلك:
يقول حضرات المبلغين، إن الأستاذ المؤلف أنكر أن للإسلام أولية في بلاد العرب، وأنه دين إبراهيم، إذ يقول: "أما المسلمون فقد أرادوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي، وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته، هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل". إلى أن قال: "وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم، ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور، ثم أعرضت عنه لما أضلها به المضلون، وانصرفت عنه إلى عبادة الأوثان".. إلخ.
ومن حيث إن كلام المؤلف هنا، هو استمرار في بحث بيان أسباب انتحال الشعر من حيث تأثير الدين على الانتحال، ولا اعتراض على البحث من حيث هو، وقد قرر المؤلف في التحقيق أنه لم ينكر أن الإسلام دين إبراهيم، ولا أن له أولية في العرب، وأن شأن ما ذكره في هذه المسألة كشأن ما ذكره في مسألة النسَب: رأي القصاص في اقتناع المسلمين بأن للإسلام أولية، وبأنه دين إبراهيم فاستغلوا هذا الاقتناع وأنشأوا حول مسألة النسَب.
ونحن لا نرى اعتراضا على أن يكون مراده بما يكتب في هذه المسألة هو ما ذَكر، ولكننا نرى أنه سيئ التعبير جدا في بعض عباراته كقوله: "ولم يكن أحد قد احتكر ملة إبراهيم، ولا زعم لنفسه الانفراد بتأويلها، فقد أخذ المسلمون يردون الإسلام في خلاصته إلى دين إبراهيم هذا، الذي هو أقدم وأنقى من دين اليهود والنصارى، كقوله: وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم.
ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور.." لأن في إيراد عباراته على هذا النحو، ما يشعر بأنه يقصد شيئا آخر بجانب هذا المراد، خصوصا إذا قربنا بين هذه العبارات وبين ما سبق له ذكره بشأن تشككه في وجود إبراهيم وما يتعلق به.
هذا عن عرض الوقائع ومناقشتها وإبداء الرأي الفكري والديني واللغوي فيها بوصف النيابة العامة مفكرا متنورا مثقفا ملما بشتى الأحداث الدينية والتاريخية والمجتمعية.
أما عن الرأي القانوني في تلك الوقائع التي نسبت إلى المتهم:
------------------------------------------------------------------------
فقد أنزلت النيابة العامة حكم القانون عليها، استبيانا لمدى موافقتها ثمة أنموذج قانوني لأي جريمة من عدمه، وانتهت صائبة إلى انتفاء القصد الجنائي لدى المتهم، ومن ثم إلى حفظ الأوراق، لتسطر بأحرف من نور صفحة ذهبية جديدة من صفحات تاريخ القضاء المصري، وتقديره للفكر والبحث المتنور متى كان منزها من أي أغراض .
أنظر ماذا قالت النيابة العامة وكيف كانت أسباب الحفظ:
-------------------------------------------------------------------
بعد أن أوضحت النيابة العامة من خلال وقائع الدعوى، أن ما ارتكبه المتهم وإن كان يشكل الركن المادي لجريمة التعدي على الدين الإسلامي بطريق العلنية، لأنه نسَب إلى الإسلام استغلال قصة ملفقة هي قصة هجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، وبناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة واعتبار هذه القصة أسطورة من تلفيق اليهود، ونشر ذلك في كتاب، إلا أنها بتمحيص الواقعة، تبينت انتفاء الركن المعنوي الذي يجب أن يتوفر في كل جريمة، وهو أن يقوم الدليل على توفر القصد الجنائي لديه، أي أن يثبت أنه إنما أراد بما كتبه أن يتعدى على الدين الإسلامي، فإذا لم يثبت هذا الركن فلا عقاب.
قالت النيابة العامة عن الركن المادي:
------------------------------------------
وحيث إنه بالرجوع إلى الوقائع التي ذكرها الدكتور طه حسين والتي تكلمنا عنها تفصيلا وتطبيقا على القانون، يتضح أن كلامه الذي بحثناه تحت عنوان (الأمر الأول) فيه تعد على الدين الإسلامي، لأنه انتهك حرمة هذا الدين، بأن نسب إلى الإسلام أنه استغل قصة ملفقة هي قصة هجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة وبناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة واعتبار هذه القصة أسطورة، وإنها من تلفيق اليهود، وإنها حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام إلى آخر ما ذكرناه تفصيلا عند الكلام عن الوقائع وهو بكلامه هذا يرمي الدين الإسلامي بأنه مضلل في أمور هي عقائد في القرآن باعتبار أنها حقائق لا مرية فيها.
كما أن كلامه الذي بحثناه تحت عنوان (الأمر الرابع) قد أورده على صورة تُشعر بأنه يريد به إتمام فكرته بشأن ما ذَكر.
أما كلامه بشأن نسَب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إن لم يكن فيه طعن ظاهر، إلا أنه أورده بعبارة تهكمية تشِف عن الحط من قدره.
وأما ما ذَكر بشأن القراءات، مما تكلمنا عنه في الأمر الثاني، فإنه بحث بريء من الوجهة العلمية والدينية أيضا، ولا شيء فيه يستوجب المؤاخذة، لا من الوجهة الأدبية ولا من الوجهة القانونية.
أما عن الركن الأدبي (المعنوي) فقالت:
---------------------------------------------
هذا الركن هو الذي يجب أن يتوفر في كل جريمة، فيجب إذن لمعاقبة المؤلف، أن يقوم الدليل على توفر القصد الجنائي لديه، بعبارة أوضح، يجب أن يثبت أنه إنما أراد بما كتبه أن يتعدى على الدين الإسلامي فإذا لم يثبت هذا الركن فلا عقاب.
الدليل على انتفاء الركن المعوني للجريمة:
--------------------------------------------------
قالت النيابة العامة إن المؤلف قد أنكر في التحقيقات إنه يريد الطعن على الدين الإسلامي، وقال إنه ذَكر ما ذَكر في سبيل البحث العلمي، وخدمة العلم لا غير، غير مقيد بشيء، وقد أشار في كتابه تفصيلا إلى الطريق الذي رسمه للبحث، ولابد هنا من أن نشير إلى ما قرره المؤلف في التحقيق من أنه كمسلم لا يرتاب في وجود إبراهيم وإسماعيل، وما يتصل بهما مما جاء في القرآن الكريم، ولكنه كعالم مضطر إلى أن يذعن لمناهج البحث، فلا يُسلم بالوجود العلمي التاريخي لإبراهيم وإسماعيل فهو يجرد من نفسه شخصيتين.
وقد وجدنا المؤلف قد شرح نظريته هذه شرحا مستفيضا في مقال نشره بجريدة السياسة الأسبوعية بالعدد 19 الصادر في 17 يوليو سنة 1926 صـ 5 تحت عنوان (العلم والدين) وقد ذكر فيه بالنص: "فكل امرئ منا يستطيع إذا فكر قليلا، أن يجد في نفسه شخصيتين متمايزتين، إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل، وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، وتهدم اليوم ما بنته أمس، والأخرى شاعرة، تلذ وتألمن وتفرح وتحزن وترضى وتغضب، وترغب وترهب، في غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكويننا، لا نستطيع أن نتخلص من إحداهما، فما الذي يمنع لأن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة، وأن تكون الشخصية الثانية مؤمنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى".
ولسنا نعترض على هذه النظرية، بأكثر مما اعترض به هو على نفسه في مقاله حيث ذكر بعد ذلك: "سنقول وكيف يمكن أن تجمع المتناقضين ولست أحاول جوابا لهذا السؤال وإنما أحولك على نفسك .. الخ.
ولا شك في أن عدم محاولة الإجابة عن هذا الاعتراض، إنما هو عجزه عن الجواب، والمفهوم أنه قد أورد هذا الاعتراض لأنه يتوقعه حتى لا يوجه إليه.
الحقيقة أنه لا يمكن الجمع بين النقيضين في شخص واحد في وقت واحد، بل لا بد من أن تتجلى إحدى الحالتين للأخرى، وقد أشار المؤلف نفسه إلى هذا في المقال نفسه في سياق كلامه على الخلاف بين العلم والدين حيث قال بشأنهما: ليسا متفقين، ولا سبيل إلى أن يتفقا، إلا أن ينزل أحدهما لصاحبه عن شخصيته كلها.
أما توزيع الاختصاص، الذي أجراه الدكتور بجعله العلم من اختصاص القوة العاقلة، والدين من اختصاص القوة الشاعرة، فلسنا ندركه، والذي نفهمه، أن العقل هو الأساس في العلم والدين معا، وإذا ما وجدنا العلم والدين يتنازعان، فسبب ذلك أنه ليس لدينا القدر الكافي من كل منهما. إننا نقرر هذا بناء على ما نعرفه في أنفسنا، أما الدكتور فقد تكون لديه القدرة على ما يقول، وليس ذلك على الله بعسير.
نحن في موقع البحث عن حقيقة نية المؤلف، فسواء لدينا إن صحت نظرية تجريد شخصيتين عالمة ومتدينة أو لم تصح، فإننا على الفرضين نرى أنه كتب ما كتب على اعتقاد تام، ولما قرأنا ما كتبه بإمعان وجدناه منساقا في كتاباته بعامل قوي متسلط على نفسه، وقد بينا حين بحثنا الوقائع كيف قاده بحثه إلى ما كتب، وهو إن كان قد أخطأ فيما كتب إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شيء، وتعمد الخطأ المصحوب بنية التعدي شيء آخر.
وحيث إنه مع ملاحظة أن أغلب ما كتبه المؤلف مما يمس موضوع الشكوى، وهو ما قصرنا بحثنا عليه، إنما هو تخيلات وافتراضات واستنتاجات لا تستند إلى دليل علمي صحيح، فإنه كان يجب عليه أن يكون حريصا في جرأته على ما أقدم عليه مما يمس الدين الإسلامي، الذي هو دينه ودين الدولة التي هو من رجالها، المسؤولين عن نوع من العمل فيها، وأن يلاحظ مركزه الخاص في الوسط الذي يعمل فيه. صحيح إنه كتب ما كتب عن اعتقاد بأنه بحثه العلمي يقتضيه، ولكنه مع هذا كان مقدرا لمركزه تماما، وهذا الشعور ظاهر من عبارات كثيرة في كتابه، منها قوله: "وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقا سيزودون عنه، ولكني على سخط أولئك وازوداد هؤلاء، أريد أن أذيع هذا البحث".
إن للمؤلف فضلا لا يُنكر في سلوكه طريقا جديدا للبحث، حذا فيه حذو العلماء من الغربيين، ولكنه لشدة تأثير نفسه مما أخذ عنهم قد تورط في بحثه، حتى تخيل حقا ما ليس بحق، أو ما لا يزال بحاجة إلى إثبات أنه حق، إنه قد سلك طريقا مظلما، فكان يجب عليه أن يسير على مهل، أو أن يحتاط في سيره حتى لا يضل، ولكن أقدم بغير احتياط فكانت النتيجة غير محمودة.
وحيث إنه مما تقدم، يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه، إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي، مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها.
وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر:
فلذلك
تحفظ الأوراق إداريا.
القاهرة في 30 مارس سنة 1927م.
رئيس النيابة
محمد نور