الأربعاء 30 أبريل 2025 08:05 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

المستشار ‏ بهاء المري يكتب : القضاء وحرية الفكر قضية طعن طه حسين في القرآن الكريم ‏ ونَسَب النبي ﷺ أنموذَجًا

المستشار ‏ بهاء المري
المستشار ‏ بهاء المري

كانت قضية كتاب الدكتور طه حسين: "في الشعر الجاهلي" من ‏أشهر القضايا التي شغلت الرأي العام في مصر – 1926 - بشكل منقطع ‏النظير، إذ نُسب إليه الطعن الصريح في القرآن الكريم، ونَسَب النبي ﷺ. بل كانت ‏من أخطر قضايا الفكر. انتفض لها المجتمع بكل أوساطه، الدينية والعلمية ‏والفكرية، بل والبرلمان ومجلس الوزراء، يطالبون بمحاكمة هذا المفكر، بل ‏وتجريده من شهاداته العلمية.‏

وكان أهم ما في أحداثها، هو موقف القضاء المصري العظيم ‏متمثلا في النيابة العامة، فلم يَرها – القضاء - كما رآها مَن تعامَلوا مع فِكر ‏هذا الرجل ككافر أو مُلحد، وإنما رآها بعين المؤمِن بحرية الفِكر والإبداع، ‏وهو ما يؤكد أن القضاء كان دائمًا مُلمًا بقضايا عصره، الفكرية، والثقافية، ‏والعلمية، والاجتماعية، والسياسية، فأمرت بحفظ الأوراق إداريًا، مستندة ‏إلى أسباب أوردتها وهي تُفند أدلة الاتهام، مما يُعد من أروع نماذج الأدب ‏القضائي الخالد. ‏

البلاغات: ‏
---------
بلاغ من الطالب الأزهري حسنين مخلوف: ‏
--------------------------------------------------
‏ ‏ بدأت وقائع الدعوى ببلاغ تقدم به الشيخ حسنين مخلوف، ‏الطالب بالقسم العالي بالأزهر لسعادة النائب العمومي في 30 مايو ‏‏1926 يتهم فيه الدكتور طه حسين، بأنه ألَّفَ كتابًا أسماه "في الشعر ‏الجاهلي" ونشره على الجمهور، فيه طعن صريح في القرآن العظيم، حيث ‏نسبَ الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم. ‏

بلاغ من شيخ الأزهر: ‏
-------------------------
لم يقف الأمر عند حد هذا البلاغ، بل تلاه بلاغ آخر أرسله فضيلة ‏شيخ الجامع الأزهر لسعادة النائب العمومي بتاريخ 5 يونيو سنة 1926 ‏وقد أرفق به تقريرا رفعه علماء الجامع الأزهر عن الكتاب ذاته، نسب فقيه ‏لطه حسين أنه في كتابه هذا: "كذب القرآن الكريم صراحة، وطعن فيه على ‏النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نسبه الشريف، وأهاج بذلك ثائرة ‏المتدينين، وأتى فيه بما يخل بالنظم العامة ويدعو الناس للفوضى، وذلك ‏لاتخاذ اللازم قانونا ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمي، وتقديم ‏مؤلف الكتاب للمحاكمة الجنائية. ‏

بلاغ من عضو مجلس النواب:‏
----------------------------------
بتاريخ 14 سبتمبر من العام ذاته تقدم "عبد الحميد البنان" ‏أفندى عضو مجلس النواب ببلاغ آخر، ذكر فيه أن الأستاذ طه حسين ‏المدرس بالجامعة المصرية، نشر ووزع وعرض للبيع في المحافل والمحلات ‏العمومية، كتابا أسماه "في الشعر الجاهلي" طعن فيه وتعدى بعبارات ‏صريحة على الدين الإسلامي وهو دين الدولة.‏

الاتهامات: ‏
------------
أولا: أن المؤلف أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن الكريم في إخباره ‏عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، حيث ذكر أن ورود هذين الاسمين ‏في التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخي، وأن في قصة هجرة ‏إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المُستعربة فيها، نوعًا من الحيلة ‏في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهود ‏والقرآن من جهة أخرى". ‏

ثانيا: يزعم أن القراءات السبع المُجمع عليها لم تنزل من عند الله، وإنما ‏قرأتها العرب حسب ما استطاعت، لا كما أوحى الله بها إلى نبيه ﷺ. ‏

ثالثا: أنه طعن في كتابه على النبي ﷺ من حيث نَسبه، فقال إن تعظيم شأن ‏النبي من ناحية أسرته ونسبه إلى قريش، فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي ‏يجب أن يكون صفوة بني هاشم. ‏

رابعا: أنه أنكر أن للإسلام أولية في بلاد العرب، وأنه دين إبراهيم، يقول: ‏‏"وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده، فكرة أن الإسلام يجدد ‏دين إبراهيم، ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا، كان دين ‏العرب في عصر من العصور، ثم أعرَضَت عنه لما أضلها به المُضلون ‏وانصرفت عنه إلى عبادة الأوثان". ‏

رأى النيابة العامة: ‏
--------------------
بعد أن محصت النيابة الأوراق عن بصر وبصيرة بفكر واع مستنير، قالت: ‏

‏"إن العبارات التي يقول المبلغون إن فيها طعنًا على الدين ‏الإسلامي، إنما جاءت في سياق الكلام على موضوعات كلها متعلقة ‏بالغرض الذي ألف من أجله، ومن ثم لا يجوز انتزاعها من موضوعها ‏والنظر إليها منفصلة، وإنما الواجب هو بحثها حيث هي من الكتاب، ‏ومناقشتها في السياق الذي وردت فيه، وبذلك يمكن الوقوف على قصد ‏المؤلف منها وتقدير مسئوليته تقديرا صحيحا".‏

تحليل ما ادعاه المؤلف: ‏
---------------------------
استطردت النيابة تحلل: فقالت عن الأمر الأول: "وهو التشكيك ‏في الوجود التاريخي لإبراهيم وإسماعيل، وأن الشعر الجاهلي بعيد عن ‏اللغة العربية" فإن المؤلف بعد أن تكلم في كتابه على أن الشعر المقال بأنه ‏جاهلي لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين، وأن هذا الشعر ‏بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه ‏قيل فيه. ‏

ولكى يدلل على ذلك، فقد اجتهد في تعريف اللغة الجاهلية، فقال ‏إن الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه، هو أن العرب ‏ينقسمون إلى قسمين، القسم الأول هم القحاطنة، ومنازلهم في اليمن، ‏وهم عرب فطروا على العربية، فهم العرب العاربة، والقسم الثاني، هم ‏العدنانية ومنازلهم في الحجاز، واكتسبوا العربية بعد أن كانوا يتكلمون ‏العبرانية أو الكلدانية، والعدنانية المستعربة إنما يتصل نسبها بإسماعيل بن ‏إبراهيم ، وهم يروون حديثا يتخذونه أساسا لكل هذه النظرية خلاصته ‏أن أول من تكلم العربية ونسى لغة أبيه هو إسماعيل بن إبراهيم.‏

ثم قال بعد ذلك: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، ‏وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة ‏والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي". ثم أراد المؤلف أن يوهم بأن ‏لرأيه أساسا فقال: "ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من ‏الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام ‏واليهودية من جهة أخرى، وأن قصة العاربة والمستعربة وتعلم إسماعيل ‏العربية من جُرهم كل ذلك أحاديث أساطير". ‏

الحجج التي ساقتها النيابة العامة في هذا السياق: ‏
-----------------------------------------------------------
لقد انتقدت النيابة العامة هذا المنهج الذي انتهجه طه حسين في ‏بحث مسألة اللغة، والوجود التاريخي لسيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل ‏فقالت: ‏

‏(1) إن مؤلف الكتاب خرج من بحثه هذا، عاجزا عن الوصول إلى غرضه ‏الذي عقد هذا الفصل من أجله، وهو التدليل على أن الشعر الجاهلي بعيد ‏كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذى يزعم الرواة أنه قيل ‏فيه، وبديهي أنه للوصول إلى هذا الغرض يتعين على الباحث تحضير ثلاثة ‏أمور:‏

‏1- الشعر الذي يريد أن يبرهن على أنه منسوب بغير حق للجاهلية.‏
‏2- الوقت الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه.‏
‏3- اللغة التي كانت موجودة فعلا في الوقت المذكور. ‏

وبعد أن تتهيأ له هذه المواد، يجري عملية المقارنة، فيوضح ‏الاختلافات الجوهرية بين لغة الشعر وبين لغة الزمن الذي روي أنه قيل ‏فيه، ويستخرج بهذه الطريقة الدليل على صحة ما يدعيه. ‏

ولكن الأستاذ (أي الدكتور طه حسين) تطرق في بحثه إلى الكلام على ‏مسائل في غاية الخطورة، صدم بها الأمة الإسلامية في أعز ما لديها من ‏الشعور، ولوث نفسه بما تناوله من البحث في هذا السبيل بغير فائدة، ولم ‏يوَفق إلى الإجابة، ومن ثم يكون المؤلف في واحدة من اثنتين: إما أن يكون ‏عاجزا، وإما أن يكون سيئ النية، بحيث قد جعل هذا البحث ستارا ‏ليصل بواسطته إلى الكلام في تلك المسائل الخطيرة.‏

‏(2) ما قاله المؤلف من أن نظرية تعلم إسماعيل وأولاده العربية من جُرهم ‏لو كانت صحيحة، لوجب أن تكون لغة المتعلم كلغة المعلم، فهذا ‏الاعتراض وجيه في ذاته، ولكنه لا يفيد في التدليل على صحة رأيه، لأنه ‏نسي أمرا مهما، وهو مرور زمن طويل من الوقت الذي يروي أن إسماعيل ‏تعلم فيه اللعة العربية من جُرهم، إلى الوقت الذي اختاره المؤلف للمقارنة ‏بين اللغتين، زمن يتعذر تحديده، فهل يريد المؤلف مع هذا أن يتخذ ‏الاختلافات التي بين اللغتين دليلا على عدم صحة نظرية الرواة، ذلك أنه ‏إذا ما ثبت وجود خلاف مهما كان مداه بين اللغتين، فإن هذا لا ينفي صحة ‏الرواية التي يرويها الرواة، من حيث تعلم إسماعيل العربية من جُرهم. ‏

أوردت النيابة مقاطع من التحقيقات تؤازر رؤيتها فقالت:‏
-------------------------------------------------------------------
وليس أدل على عجز المؤلف عن إثبات ما يقصد، من أن نذكر هنا ‏ما دار في التحقيق من المناقشة بشأن هذه المسألة:‏

س - هل يمكن لحضرتكم أن تبينوا لنا المراجع أو تقدموها لنا؟

ج - أنا لا أقدم شيئا.‏

س - هل يمكن لحضرتكم أن تبينوا إلى أي وقت كانت موجودة اللغة ‏الحميرية ومبدأ وجودها إن أمكن؟

ج - مبدأ وجودها ليس من السهل تحديده، ولكن لا شك في أنها كانت ‏معروفة، تكتب قبل القرن الأول للمسيح، وظلت تتكلم إلى ما بعد ‏الإسلام، ولكن ظهور الإسلام وسيادة اللغة القرشية، محوا غيرها من ‏اللغات المختلفة في البلاد العربية وغير العربية، وأقرّا مكانهما لغة القرآن. ‏

س - هل تعتقدون حضرتكم أن اللغة سواء كانت اللغة الحميرية أو اللغة ‏العدنانية، كانت باقية على حالها من وقت نشأتها، أو حصل بها تغيير بسبب ‏تمادي الزمن والاختلاط؟ ‏

ج - ما أظن أن لغة من اللغات تستطيع أن تبقى قرونا دون أن تتطور ‏ويحصل فيها التغيير الكثير.‏

ويضيف رئيس النيابة محمد نور بك: نحن مع هذا لا نريد أن ننفي ‏وجود اختلاف بين اللغتين ولا نقصد أن نعيب على المؤلف جهله بهذه ‏الأمور، فإنها في الحقيقة ما زالت من المجاهل، ومع ذلك يقرر بجرأة أن ‏هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية، ولا يمكن أن ‏يكون صحيحا، ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم ‏شيئا كثيرا من الشعر الجاهلي، قوما ينتسبون إلى عرب اليمن، التي تتكلم ‏لغة غير لغة القرآن الكريم. إن الأستاذ حرَّف في الرواية عمدا ليصل إلى ‏تقرير هذه النتيجة. ‏

والمؤلف لا يستطيع أن ينكر الاختلاط الذي لا بد منه بين القبائل ‏المختلفة، خصوصا في أمة متنقلة بطبيعتها كالأمة العربية، ولا بد لها جميعا ‏من لغة عامة تتفاهم بها هي اللغة الأدبية، وقد أشار هو بنفسه إليها في ‏صـ17 من كتابه حيث قال عن القرآن: "ولكنه كان كتابا عربيا، لغته هي ‏اللغة العربية الأدبية، التي كان يصطنعها الناس في عصره، أي في العصر ‏الجاهلي. وهذه اللغة الأدبية هي لغة الكتابة ولغة الشعر. ‏

والمؤلف نفسه عندما تكلم في الفصل الخامس عشر عن الشعر ‏الجاهلي واللهجات بحث في صـ 35، 36، 37 بحثا يؤيد هذا المعنى، وإن ‏كان يدعي بغير دليل أن الإسلام قد فرض على العرب جميعا لغة عامة ‏واحدة هي لغة قريش، مع أنه سبق أن ذكر في صـ 17 أن لغة القرآن هي ‏اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره، أي في العصر ‏الجاهلي، فلِم لا تكون لهذه اللهجة الأدبية السيادة العامة من قبل نزول ‏القرآن بزمن طويل؟ وكيف يستطيع هو هذا التحديد وعلام يستند؟

النيابة تبين خطأ المؤلف:‏
-----------------------------
‏ ‏ أوضح رئيس النيابة خطأ المؤلف حين راح يفترض تخيلا ثم ‏يُركب عليه قواعد كأنها حقائق فقال:‏

يتضح مما تقدم، أن عدم ظهور خلاف في اللغة لا يدل في ذاته حتما ‏على عدم ظهور صحة الشعر، ونحن لا نريد بما قدمنا أن نتولى الدفاع عن ‏صحة الشعر الجاهلي، إذ أن هذه المسألة ليست حديثة العهد ابتدعها ‏المؤلف، وإنما هي مسألة قديمة قررها أهل الفن والشعر كما قال (ابن ‏سلاّم) صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات، ‏وهو يحتاج في تمييزه إلى خبير كاللؤلؤ والياقوت لا يُعرف بصنعة ولا وزن ‏دون المعاينة ممن يبصره.‏

ولكن الذي نريد أن نشير إليه إنما هو الخطأ الذي اعتاد أن يرتكبه ‏المؤلف في أبحاثه، حيث بدأ بافتراض يتخيله، ثم ينتهي بأن يُركب عليه ‏قواعد كأنها حقائق ثابتة، كما فعل في أمر الاختلافات بين لغة حمير وبين لغة ‏عدنان، ثم مسألة إبراهيم وإسماعيل، وهجرتهما إلى مكة وبناء الكعبة إذ بدأ ‏فيها بإظهار الشك ثم انتهى باليقين.‏

‏ بدأ بقوله: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن ‏يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا ‏يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا ‏بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها". ‏

إلى هنا أظهَر الشك لعدم قيام الدليل التاريخي في نظره، كما تتطلبه ‏الطرق الحديثة، ثم انتهى بأن قرر في كثير من الصراحة: إن ضعف هذه ‏القصة إذن واضح، فهي حديثة العهد ظهرت قبل الإسلام لسبب ديني ‏‏..... الخ، فما هو الدليل الذي انتقل به من الشك إلى اليقين؟ ‏

هل دليله هو قوله: "نحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة ‏نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود وبين العرب من جهة، وبين ‏الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى؟ وأن أقدم عصر ‏يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو ذلك العصر الذي أخذ ‏اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويبنون فيه المستعمرات.. إلخ، ‏وأن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة بينه وبين وثنية العرب من غير ‏أهل الكتاب، قد اقتضى أن نثبت الصلة بين المدن الجديدة وبين ديانتي ‏النصارى واليهود، وأنه مع ثبوت الصلة الدينية يحسن أن تؤيدها صلة ‏مادية ...إلخ". ‏

إذا كان الأستاذ المؤلف يرى أن ظهور الإسلام قد اقتضى أن تَثبت ‏الصلة بينه وبين ديانتي اليهود والنصارى، وأن القرابة المادية الملفقة بين ‏العرب واليهود لازمة لإثبات الصلة بين الإسلام واليهودية، فاستغلها لهذا ‏الغرض، فهل له أن يبين السبب في عدم اهتمامه أيضا بمثل هذه الحيلة ‏لتوثيق الصلة بين الإسلام والنصرانية؟ وهل عدم اهتمامه هذا، معناه ‏عجزه أو استهانته بأمر النصرانية؟ وهل من يريد توثيق الصلة مع اليهود ‏بأي ثمن، حتى باستغلال التلفيق، هو الذي يقول عنهم في القرآن ‏‏"لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا". إن ‏الأستاذ ليَعجز عن تقديم هذا البيان إذ أن كل ما ذكره في هذه المسألة إنما ‏هو خيال في خيال. ‏

وانظر أيضا مدى وعي النيابة العامة في استبيان ضعف ووهن أدلة المؤلف ‏حين قالت عنها:‏
----------------------------------------------------------------------------------

إن كل ما استند إليه – أي الدكتور طه حسين - من أدلة هو:‏

‏1- فليس ببعيد أن يكون ...‏
‏2- فما الذي يمنع ...‏
‏3- ونحن نعتقد ...‏
‏4- وإذن فليس ما يمنع قريشا من أن تقبل هذه الأسطورة.‏
‏5- وإذن فنستطيع أن نقول!‏

فالأستاذ المؤلف في بحثه إذا رأى إنكار الشيء يقول لا دليل على ‏الأدلة التي تتطلبها الطرق الحديثة للبحث حسب الخطة التي رسمها في ‏منهج البحث، وإذا رأى تقرير أمر لا يُدلل عليه بغير الأدلة التي أحصيناها ‏له وكفى بقوله حجة. ‏

سُئل الأستاذ في التحقيق عن أصل هذه المسألة "أي تلفيق القصة" ‏وهل هي من استنتاجه أو نقلها، فقال: ‏

‏ "فرض فرضته أنا، دون أن أطلع عليه في كتاب آخر، وقد أخبرت بعد أن ‏ظهر الكتاب أن شيئا من هذا الفرض يوجد في بعض كتب المبشرين، ‏ولكن لم أفكر فيه حتى بعد ظهور كتابي". ‏

على أنه سواء كان الفرض من تخيله كما يقول، أو من نقله عن ذلك ‏المبشر الذي يستتر تحت اسم (هاشم العربي) فإنه كلام لا يستند إلى دليل ‏ولا قيمة له، على أننا نلاحظ أن ذلك المبشر مع ما هو ظاهر من مقاله من ‏غرض الطعن على الإسلام، كان في عباراته أظرف من مؤلف كتاب الشعر ‏الجاهلي، لأنه لم يتعرض للشك في وجود إبراهيم وإسماعيل بالذات، وإنما ‏اكتفى بأن أنكر أن إسماعيل أبو العرب العدنانيين، وقال إن حقيقة الأمر في ‏قصة إسماعيل، غنها دسيسة لفقها قدماء اليهود للعرب تزلفا إليهم، إلخ. ‏كما نلاحظ أيضا أن ذلك المبشر قد يكون له عذره في سلوك هذا السبيل، ‏لأن وظيفته التبشير لدينه، وهذا غرضه الذي يتكلم فيه، ولكن ما عذر ‏الأستاذ المؤلف في طرق هذا الباب، وما هي الضرورة التي ألجأته إلى أن ‏يرى في هذه القصة نوعا من الحيلة...إلخ. ‏

وإن كان المتسامح يرى له بعض العذر في التشكيك الذي أظهره ‏أولا اعتمادا على عدم وجود الدليل التاريخي كما يقول، فما الذي دعاه إلى ‏أن يقول في النهاية بعبارة تفيد الجزم: "إن هذه القصة إذن واضحة فهي ‏حديثة العهد، ظهرت قبيل الإسلام، واستغلها الإسلام لسبب ديني ‏واضح ...إلخ" مع اعترافه في التحقيق بأن المسألة فرض افترضه. ‏

يقول الأستاذ إنه إن صح افتراضه، فإن القصة كما كانت شائعة بين ‏العرب قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام استغلها، وليس ما يمنع أن ‏يتخذها الله في القرآن وسيلة لإقامة الحجة على الخصوم المسلمين، كما اتخذ ‏غيرها من القصص التي كانت معروفة وسيلة إلى الاحتجاج أو إلى الهداية. ‏وهاشم العربي يقول في مثل هذا: ولما ظهر محمد، رأى المصلحة في إقرارها ‏فأقرها، وقال للعرب إنه يدعوهم إلى ملة جدهم هذا، الذي يعظمونه من ‏غير أن يعرفوه، فسبحان من أوجد هذا التوافق بين الخواطر.

إن الأستاذ المؤلف أخطأ فيما كتب، وأخطأ أيضا في تفسير ما كتب ‏وهو في هذه النقطة قد تعرض بغير شك لنصوص القرآن، وليس في وسعه ‏الهرب بادعائه البحث العلمي منفصلا عن الدين. ‏

تساؤلات النيابة العامة تُحرج الباحث:‏
--------------------------------------------
قال رئيس النيابة محمد نور في أسباب قراره بالحفظ: فليفسر لنا ‏إذن (أي الدكتور طه حسين) قوله تعالى في سورة النساء: "إنا أوحينا إليك ‏كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل ‏وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان ‏‏...إلخ" وقوله في سورة مريم : "واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صدّيقا ‏نبيا" و"اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا" ‏وفي سورة آل عمران "قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم ‏وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون ‏من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" وغير ذلك من الآيات ‏القرآنية الكثيرة التي ورد فيها ذكر إبراهيم وإسماعيل، لا على سبيل المثال ‏كما يدعي حضرته.‏

وهل عقل الأستاذ سلَّم بأن الله سبحانه وتعالى يذكر أن إبراهيم ‏نبي وأن إسماعيل رسول نبي مع أن القصة ملفقة، وماذا يقول حضرته في ‏موسى وعيسى، وقد ذكرهما الله سبحانه وتعالى في الآية الأخيرة مع ‏إبراهيم وإسماعيل، وقال في حقهم جميعا لا نفرق بين أحد منهم، وهل ‏يرى حضرته أن قصة موسى وعيسى من الأساطير أيضا، قد ذكرها الله ‏وسيلة للاحتجاج أو للهداية كما فعل في قصة إبراهيم وإسماعيل، ما دامت ‏الآية تقضي بألا نفرق بين أحد منهم؟!‏

تخبط الطائش: ‏
------------------
‏ يضيف رئيس النيابة في أسباب قراره: الحق أن المؤلف في هذه ‏المسألة يتخبط تخبط الطائش، ويكاد يعترف بخطئه لأن جوابه يشعر بهذا ‏عندما سألناه في التحقيق، عن السبب الذي دعاه أخيرا لأن يقرر بطريقة ‏تفيد الجزم، بأن القصة حديثة العهد،، ظهرت قبيل الإسلام فقال في صــ ‏‏37 من محضر التحقيق: "هذه العبارة إذا كانت تفيد الجزم، فهي إنما تفيده ‏إن صح الفرض الذي قامت عليه، وربما كان فيها شيء من الغلو، ولكني ‏أعتقد أن العلماء جميعا عندما يفترضون فروضا علمية، يبيحون لأنفسهم ‏مثل هذا النحو من التعبير، فالواقع أنهم مقتنعون فيما بينهم وبين أنفسهم ‏بأن فروضهم راجحة". ‏

والذي نراه أن موقف الأستاذ هنا لا يختلف عن موقف الأستاذ ‏‏(هوار) حين تكلم عن شعر أمية بن أبي الصلت وقد وصف المؤلف نفسه ‏هذا الموقف صـ 82، 83 من كتابه بقوله: "مع أني من أشد الناس إعجابا ‏بالأستاذ (هوار) وبطائفة من أصحابه المستشرقين، وبما ينتهون إليه في كثير ‏من الأحيان من النتائج العلمية القيمة في تاريخ الأدب العربي التي ‏يتخذونها للبحث، فإني لا أستطيع أن أقرأ مثل هذا الفصل دون أن أعجب ‏كيف يتورط العلماء أحيانا في مواقف لا صلة بينها وبين العلم". ‏

حقا إن الأستاذ قد تورط في هذا الموقف، الذي لا صلة بينه وبين ‏العلم، بغير ضرورة يقتضيها بحثه، ولا فائدة يرجوها، لأن النتيجة التي ‏وصل إليها من بحثه وهي قوله: "إن الصلة بين اللغة العدنانية وبين اللغة ‏القحطانية، كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات السامية ‏المعروفة، وأن قصة العاربة والمستعربة وتعلم إسماعيل العربية من جرهم ‏كل ذلك حديث أساطير لا خطر له ولا غناء فيه" ما كانت تستدعي ‏التشكيك في صحة إخبار القرآن عن إبراهيم وإسماعيل وبنائهما الكعبة ثم ‏الحكم بعدم صحة القصة وباستغلال الإسلام لها لسبب ديني. ‏

ونحن لا نفهم كيف أباح المؤلف لنفسه أن يخلط بين الدين وبين ‏العلم، وهو القائل بأن الدين يجب أن يكون بمعزل عن هذا النوع من ‏البحث، الذي هو بطبيعته قابل للتغيير والنقص والشك والإنكار (صـ ‏‏22 من محضر التحقيق) وإننا حيث نفصل بين العلم والدين نضع الكتب ‏السماوية موضع التقديس، ونعصمها من إنكار المنكرين، وطعن الطاعنين ‏‏(صـ 24 من محضر التحقيق) ولا ندري لم يفعل غير ما يقول في هذا ‏الموضوع. ‏

لقد سئل في التحقيق فقال: "إن الداعي أني أناقش طائفة من ‏العلماء والأدباء والقدماء والمحدثين، وكلهم يقرون بأن العرب المستعربة ‏أخذوا لغتهم عن العرب العاربة بواسطة إسماعيل بعد أن هاجر، وهم ‏جميعا يستدلون على آرائهم بنصوص من القرآن ومن الحديث، فليس لي بد ‏من أن أقول لهم إن هذه النصوص لا تلزمني من الوجهة العلمية".‏

النيابة تقرر حقائق لا جدال فيها ولا مجال لاجتهاد فتقول: ‏
--------------------------------------------------------------------
عن الأمر الأول:
------------------
‏ ‏ أما الثابت من نصوص القرآن، في قصة الهجرة وبناء الكعبة، ليس ‏في القرآن نصوص يُستدل بها عن تقسيم العرب إلى عاربة ومستعربة، ‏وعلى أن إسماعيل أبو العرب العدنانيين، ولا على تعلم إسماعيل العربية من ‏جرهم، ونص الآية التي أثبتت الهجرة: "ربنا إني أسكنتُ من ذريتي بوادٍ ‏غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس ‏تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون". لا يفيد غير إسكان ‏ذرية إبراهيم في وادي مكة، أي أن إسماعيل هو جُرهم صغير (كنص ‏الحديث) إلى هذا الوادي، فنشأ بين أهله وهم العرب وتعلم هو وأبناؤه ‏لغة من نشأوا بينهم وهي العربية، لأن اللغة لا تولد مع الإنسان وإنما ‏تكتسب اكتسابا، وقد اندمجوا في العرب فصاروا منهم وهذا الاندماج لا ‏يترتب عليه أن يكون جميع العرب العدنانيين من ذريته، وهو ما لم يقل به ‏أحد.‏

ويا ليت الأستاذ المؤلف حذا حذو ذلك المبشر (هاشم العربي) في هذه ‏المسالة حيث قال: "ولا إسماعيل نفسه باب العرب المستعربة، ولا تملك ‏أحد من بنيه على أمة من الأمم، وإنما قصارى أمرهم أنهم دخلوا وهم عدد ‏قليل من قبائل العرب العديدة المجاورة لمنازلهم فاختلطوا بها وما كانوا ‏منها إلا كعصاة في فلاة" راجع صــ 356 من كتاب مقالة في الإسلام.‏
‏ ولو أن المؤلف فعل هذا لنجا من التورط في هذا الموضوع، أما مسالة ‏بناء الكعبة، فلم يفهم الحكمة في نفيها، واعتبرها أسطورة من الأساطير ‏اللهم إلا إذا كان مراده إزالة كل أثر لإبراهيم وإسماعيل، ولكن ما مصلحة ‏المؤلف من هذا ؟ الله أعلم بمراده. ‏

عن الأمر الثاني: (وهو القراءات السبع) قالت النيابة العامة: ‏
---------------------------------------------------------------------
من حيث إن المبلغين ينسبون إلى المؤلف أنه زعم: "عدم إنزال ‏القراءات السبع المجمع عليها والثابتة لدى المسلمين جميعا" ويقول إن هذه ‏القراءات "إنما قرأتها العرب حسب ما استطاعت لا كما أوصى الله بها إلى ‏نبيه، مع أن معاشر المسلمين يعتقدون أن كل هذه القراءات مروية عن الله ‏تعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وأن [ما] تجده فيها من إمالة ‏وفتح وإدغام وفك ونقل كله منزل من عند الله تعالى.‏

استدلوا على هذا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرأني جبريل ‏على حرفن فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف) وعلى ‏قوله صلى الله عليه وسلم لما تحاكم إليه سيدنا عمر بن الخطاب وهشام بن ‏حكيم بسبب ما ظهر من الاختلاف بين قراءة كل منهما قال: (هكذا أنزل ‏وإن القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه).

وقالوا إن الحديث حديث وإن كان غير متواتر من حيث السند، أي أنه ‏متواتر من حيث المعنى، وحيث إنه يجب أن يلاحظ قبل الكلام عبارة ‏المؤلف أن حديث: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) قد ورد من رواية نحو ‏عشرين من الصحابة لا بنصه ولكن بمعناه. وقد حصل اختلاف كثير في ‏المراد بالأحرف السبعة، فقال بعضهم إن المراد بالأحرف السبعة الأوجه ‏التي يقع بها الاختلاف في القراءة (راجع كتاب البيان لطاهر بن صالح بن ‏أحمد الجزائري طبعة المنار صـ 37، 38) وقال بعضهم إنها أوجه من المعاني ‏المتفقة بالألفاظ المختلفة نحو: (أقبل وهلم وتعال وعجل وأسرع وانظر ‏وأخر وأمهل ونحوه) (راجع صـ 39ـ وما بعدها من الكتاب المذكور) ‏وقال بعضهم إنها أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل ‏‏(صـ 47) وقال بعضهم إنها سبع لغات متفرقة في القرآن لسبعة أحياء من ‏قبائل العرب مختلفة الألسن (صـ 49) وقال بعضهم إن المراد بالسبعة ‏الأحرف سبعة أوجه في أداء التلاوة وكيفية النطق بالكلمات التي فيها من ‏إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق وإمالة وإشباع ومد وقصر وتشديد ‏وتخفيف وتليين، لأن العرب كانت مختلفة اللغات في هذه الوجوه فيَسر الله ‏عليهم ليقرأ كل إنسان بما يوافق لغته ويسهل على لسانه (صـ 59) وقال ‏غيرهم خلاف ذلك. ‏

وقد قال (الحافظ أو حاتم بن حيان البستي): اختلف أهل العلم في ‏معنى الأحرف السبعة في خمسة وثلاثين قولا (صـ 59، 60) وقال ‏الشريف المرسي: (الوجوه أكثرها متداخلة ولا أدري مستندها ولا عمن ‏نقلت) إلى أن قال: (وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها القراءات السبع ‏وهو جهل قبيح، صـ 61. وقال بعضهم هذا الحديث من المشكل الذي لا ‏يدري معناه، وقال آخر والمختار عندي أنه من المتشابه الذي لا يدري ‏تأويله). ‏

ورأى (أبو جعفر محمد بن جرير الطبري) صاحب التفسير الشهير في ‏معنى هذا الحديث، إنه أنزل بسبع لغات، وينفي أن يكون المراد بالحديث ‏القراءات، لأنه قال فأما ما كان من اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ‏ونصبه وتسكين حرف وتحريكه ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة فما ‏معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة ‏أحرف) بمعزل، لأنه معلوم أنه لا حرف من حروف القرآن مما اختلفت ‏القراءة في قراءته بهذا المعنى، يوجب المراء به، كفر المماري به في قول أحد ‏من علماء الأمة (راجع الجزء الأول من تفسير القرآن للطبري صـ 23 ‏طبعة المطبعة الأميرية).‏

والمؤلف قد تعرض لهذه المسألة في الفصل الخامس الذي عنوانه ‏‏(الشعر الجاهلي واللهجات) حيث تكلم عن عدم ظهور اختلاف في ‏اللهجة (يريد باللهجة هنا الاختلافات المحلية في اللغة الواحدة أو ما ‏يسميه الفرنسيون "‏Dialcte‏" أو تباعد في اللغة، أو تباين في مذهب الكلام ‏مع أن لكل قبيلة لغتها ومذهبها في الكلام، وهو يريد بذلك أن يدلل على ‏أن الشعر الذي لم يظهر فيه أثر لهذه الاختلافات، لم يصدر عن هذه النقطة. ‏قال إن القرآن الذي تلى بلهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها لم يكد ‏يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعددت اللهجات ‏فيه وتباينت تباينا كثيرا، جد القراء والعلماء المتأخرون في ضبطه وتحقيقه ‏وأقاموا له علما أو علوما خاصة، وقد أشار بإيضاح إلى ما يريده من ‏الاختلاف في القراءات فقال: "إنما يشير إلى اختلاف آخر يقبله العقل ‏ويسيغه النقل، وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي ‏لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها، لتقرأ القرآن كما كان يتلوه ‏النبي وعشيرته من قريش، فقرأته كما كانت تتكلم، فأمالت حيث لم تكن ‏تميل، ومدت حيث لم تكن تمد، وقصرت حيث لم تكن تقصر، وسكنت ‏حيث لم تكن تسكن، وأدغمت أو أخفت أو نقلت حيث لم تكن تدغم ولا ‏تخفي ولا تنتقل" .‏

إنصاف النيابة للمؤلف في مسألة القراءات السبع:
--------------------------------------------------------- ‏
لقد رأت النيابة العامة أن المؤلف لم يشكك في كونها (أي القراءات ‏السبع) منزلة من عند الله أم غير منزلة، ولكنه يرى أن تعددها هو مما ‏تقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين القبائل. ووصفت اجتهاده في ذلك ‏بأنه بحث علمي لا تعارض بينه وبين الدين فقالت: ‏

فالمؤلف لم يتعرض بقضية القراءات من حيث إنها منزلة أو غير ‏منزلة، وإنما قال كثرت القراءات وتعددت اللهجات، وقال إن الخلاف ‏الذي وقع في القراءات تقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل ‏العرب، التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها، فهو بهذا ‏يصف الواقع، وإن صح رأي من قال إن المقصود بالأحرف السبعة هو ‏القراءات السبع، فإن هذه الاختلافات التي كانت واقعة فعلا كانت طبعا ‏هي السبب الذي دعا إلى الترخيص للنبي صلى الله عليم وسلم بأنه يقرئ ‏كل قوم بلغتهم حيث قال صلى الله عليه وسلم : (إنه قد وسع لي أن أقرئ ‏كل قوم بلغتهم) قال أيضا : (أتاني جبريل فقال اقرأ القرآن على حرف ‏واحد فقلت إن أمتي لا تستطيع ذلك حتى قال سبع مرات فقال لي اقرأ ‏على سبعة أحرف إلخ) ، وإن لم يصح هذا الرأي فإن نوع القراءات الذي ‏عناه المؤلف إنما هو من نوع ما أشار إليه (الطبري) بقوله بمعزل عن قول ‏النبي صلى الله عليه وسلمك (أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف) لأنه ‏معلوم أنه لا حرف من حروف القرآن مما اختلفت القراءة في قراءته بهذا ‏المعنى يوجب المراء به كفر المماري به في قول أحد من علماء الأمة ، ونحن ‏نرى أن ما ذكره المؤلف في هذه المسألة هو بحث علمي لا تعارض بينه ‏وبين الدين لا اعتراض لنا عليه.‏

عن الأمر الثالث: وهو ادعاء الطعن في نسب النبي صلى الله عليه وسلم:‏
---------------------------------------------------------------------------
تفهمت النيابة العامة مقصد المؤلف من مسألة انتحال الشعر، ‏ورأت أنه كان يقصد بالانتحال في بعض الأطوار إلى إثبات صحة النبوة ‏وصدق النبي، ولكنها لاحظت عليه أنه تكلم فيما يختص بأسرة النبي صلى ‏الله عليه وسلم ونسبه في قريش بعبارة خالية من كل احترام، بل وبشكل ‏تهكمي غير لائق، ولا يوجد في بحثه ما يدعوه لإيراد العبارة على هذا ‏النحو فقالت: ‏
من حيث إن حضرات المبلغين ينسبون للأستاذ المؤلف إنه طعن في ‏كتابه النبي صلى الله عليه وسلم طعنا فاحشا، من حيث نسَبه قال في صـ ‏‏72 منه: "ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى ‏الجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسَبه إلى ‏قريش، فلأمر ما، اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم ‏وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون عبد مناف صفوة ‏بني قصي، وأن يكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مُضَر، ومضر ‏صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها". ‏قالوا إن تعدي المؤلف بالتعريض بنسَب النبي صلى الله عليه وسلم، ‏وتحقير من قدره، تَعدٍ على الدين، وجُرم عظيم، يسيء إلى المسلمين ‏والإسلام، فهو قد اجترأ على أمر لم يسبقه إليه كافر ولا مشرك. ‏

المؤلف أورد هذه العبارة في كلامه (على الدين وانتحال الشعر) ‏والأسباب التي يعتقد أنها دعت المسلمين إلى انتحال الشعر، وأنه كان ‏يقصد بالانتحال في بعض الأطوار إلى إثبات صحة النبوة وصدق النبي ‏وكان هذا النوع موجها إلى عامة الناس.‏

وقال بعد ذلك: والغرض من هذا الانتحال - على ما يرجح - إنما ‏هو إرضاء حاجات العامة الذين يريدون المعجزة في كل شيء، ولا ‏يكرهون أن يقال لهم إن من دلائل صدق النبي في رسالته أنه كان منتظرا ‏قبل أن يجيء بدهر طويل، ثم وصل إلى ما يتعلق بتعظيم شأن النبي من ‏ناحية أسرته ونسَبه في قريش. ‏

ونحن لا نرى اعتراضا على بحثه على هذا النحو من حيث هو، إنما ‏كل ما نلاحظه عليه أن تكلم فيما يختص بأسرة النبي صلى الله عليه وسلم ‏ونسبه في قريش بعبارة خالية من كل احترام بل وبشكل تهكمي غير لائق ‏ولا يوجد في بحثه ما يدعوه لإيراد العبارة على هذا النحو.‏

عن الأمر الرابع: وهو إنكار المؤلف أن الإسلام دين إبراهيم: ‏
---------------------------------------------------------------------
فقد تجلت رَصانة فكر النيابة العامة في استخلاص حقيقة ما يبغى ‏المؤلف من هذا القول، ورأت أنه استمرار في بحث بيان أسباب انتحال ‏الشعر من حيث تأثير الدين على الانتحال، ودللت على ذلك بما قرره ‏المؤلف في التحقيقات من أنه لم ينكر أن الإسلام دين إبراهيم، فقال رئيس ‏النيابة محمد نور بك في إيضاح ذلك:

يقول حضرات المبلغين، إن الأستاذ المؤلف أنكر أن للإسلام أولية ‏في بلاد العرب، وأنه دين إبراهيم، إذ يقول: "أما المسلمون فقد أرادوا أن ‏للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي، وأن خلاصة ‏الدين الإسلامي وصفوته، هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى ‏الأنبياء من قبل". إلى أن قال: "وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام ‏وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم، ومن هنا أخذوا يعتقدون أن ‏دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور، ثم أعرضت ‏عنه لما أضلها به المضلون، وانصرفت عنه إلى عبادة الأوثان".. إلخ. ‏

ومن حيث إن كلام المؤلف هنا، هو استمرار في بحث بيان أسباب ‏انتحال الشعر من حيث تأثير الدين على الانتحال، ولا اعتراض على ‏البحث من حيث هو، وقد قرر المؤلف في التحقيق أنه لم ينكر أن الإسلام ‏دين إبراهيم، ولا أن له أولية في العرب، وأن شأن ما ذكره في هذه المسألة ‏كشأن ما ذكره في مسألة النسَب: رأي القصاص في اقتناع المسلمين بأن ‏للإسلام أولية، وبأنه دين إبراهيم فاستغلوا هذا الاقتناع وأنشأوا حول ‏مسألة النسَب.‏

ونحن لا نرى اعتراضا على أن يكون مراده بما يكتب في هذه ‏المسألة هو ما ذَكر، ولكننا نرى أنه سيئ التعبير جدا في بعض عباراته ‏كقوله: "ولم يكن أحد قد احتكر ملة إبراهيم، ولا زعم لنفسه الانفراد ‏بتأويلها، فقد أخذ المسلمون يردون الإسلام في خلاصته إلى دين إبراهيم ‏هذا، الذي هو أقدم وأنقى من دين اليهود والنصارى، كقوله: وشاعت في ‏العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم. ‏

ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب ‏في عصر من العصور.." لأن في إيراد عباراته على هذا النحو، ما يشعر بأنه ‏يقصد شيئا آخر بجانب هذا المراد، خصوصا إذا قربنا بين هذه العبارات ‏وبين ما سبق له ذكره بشأن تشككه في وجود إبراهيم وما يتعلق به.‏

هذا عن عرض الوقائع ومناقشتها وإبداء الرأي الفكري والديني واللغوي ‏فيها بوصف النيابة العامة مفكرا متنورا مثقفا ملما بشتى الأحداث الدينية ‏والتاريخية والمجتمعية. ‏

أما عن الرأي القانوني في تلك الوقائع التي نسبت إلى المتهم:‏
------------------------------------------------------------------------
‏ فقد أنزلت النيابة العامة حكم القانون عليها، استبيانا لمدى ‏موافقتها ثمة أنموذج قانوني لأي جريمة من عدمه، وانتهت صائبة إلى ‏انتفاء القصد الجنائي لدى المتهم، ومن ثم إلى حفظ الأوراق، لتسطر ‏بأحرف من نور صفحة ذهبية جديدة من صفحات تاريخ القضاء المصري، ‏وتقديره للفكر والبحث المتنور متى كان منزها من أي أغراض .

أنظر ماذا قالت النيابة العامة وكيف كانت أسباب الحفظ:
------------------------------------------------------------------- ‏
بعد أن أوضحت النيابة العامة من خلال وقائع الدعوى، أن ما ‏ارتكبه المتهم وإن كان يشكل الركن المادي لجريمة التعدي على الدين ‏الإسلامي بطريق العلنية، لأنه نسَب إلى الإسلام استغلال قصة ملفقة هي ‏قصة هجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، وبناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة ‏واعتبار هذه القصة أسطورة من تلفيق اليهود، ونشر ذلك في كتاب، إلا ‏أنها بتمحيص الواقعة، تبينت انتفاء الركن المعنوي الذي يجب أن يتوفر في ‏كل جريمة، وهو أن يقوم الدليل على توفر القصد الجنائي لديه، أي أن ‏يثبت أنه إنما أراد بما كتبه أن يتعدى على الدين الإسلامي، فإذا لم يثبت هذا ‏الركن فلا عقاب.

قالت النيابة العامة عن الركن المادي: ‏
------------------------------------------
وحيث إنه بالرجوع إلى الوقائع التي ذكرها الدكتور طه حسين ‏والتي تكلمنا عنها تفصيلا وتطبيقا على القانون، يتضح أن كلامه الذي ‏بحثناه تحت عنوان (الأمر الأول) فيه تعد على الدين الإسلامي، لأنه ‏انتهك حرمة هذا الدين، بأن نسب إلى الإسلام أنه استغل قصة ملفقة هي ‏قصة هجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة وبناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة ‏واعتبار هذه القصة أسطورة، وإنها من تلفيق اليهود، وإنها حديثة العهد ‏ظهرت قبيل الإسلام إلى آخر ما ذكرناه تفصيلا عند الكلام عن الوقائع ‏وهو بكلامه هذا يرمي الدين الإسلامي بأنه مضلل في أمور هي عقائد في ‏القرآن باعتبار أنها حقائق لا مرية فيها. ‏

‏ كما أن كلامه الذي بحثناه تحت عنوان (الأمر الرابع) قد أورده ‏على صورة تُشعر بأنه يريد به إتمام فكرته بشأن ما ذَكر.‏

أما كلامه بشأن نسَب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إن لم يكن ‏فيه طعن ظاهر، إلا أنه أورده بعبارة تهكمية تشِف عن الحط من قدره.‏

وأما ما ذَكر بشأن القراءات، مما تكلمنا عنه في الأمر الثاني، فإنه ‏بحث بريء من الوجهة العلمية والدينية أيضا، ولا شيء فيه يستوجب ‏المؤاخذة، لا من الوجهة الأدبية ولا من الوجهة القانونية.‏

أما عن الركن الأدبي (المعنوي) فقالت: ‏
---------------------------------------------
هذا الركن هو الذي يجب أن يتوفر في كل جريمة، فيجب إذن ‏لمعاقبة المؤلف، أن يقوم الدليل على توفر القصد الجنائي لديه، بعبارة ‏أوضح، يجب أن يثبت أنه إنما أراد بما كتبه أن يتعدى على الدين الإسلامي ‏فإذا لم يثبت هذا الركن فلا عقاب.‏

‏ الدليل على انتفاء الركن المعوني للجريمة: ‏
--------------------------------------------------
قالت النيابة العامة إن المؤلف قد أنكر في التحقيقات إنه يريد ‏الطعن على الدين الإسلامي، وقال إنه ذَكر ما ذَكر في سبيل البحث ‏العلمي، وخدمة العلم لا غير، غير مقيد بشيء، وقد أشار في كتابه تفصيلا ‏إلى الطريق الذي رسمه للبحث، ولابد هنا من أن نشير إلى ما قرره المؤلف ‏في التحقيق من أنه كمسلم لا يرتاب في وجود إبراهيم وإسماعيل، وما ‏يتصل بهما مما جاء في القرآن الكريم، ولكنه كعالم مضطر إلى أن يذعن ‏لمناهج البحث، فلا يُسلم بالوجود العلمي التاريخي لإبراهيم وإسماعيل ‏فهو يجرد من نفسه شخصيتين.‏

وقد وجدنا المؤلف قد شرح نظريته هذه شرحا مستفيضا في مقال ‏نشره بجريدة السياسة الأسبوعية بالعدد 19 الصادر في 17 يوليو سنة ‏‏1926 صـ 5 تحت عنوان (العلم والدين) وقد ذكر فيه بالنص: "فكل ‏امرئ منا يستطيع إذا فكر قليلا، أن يجد في نفسه شخصيتين متمايزتين، ‏إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل، وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، ‏وتهدم اليوم ما بنته أمس، والأخرى شاعرة، تلذ وتألمن وتفرح وتحزن ‏وترضى وتغضب، وترغب وترهب، في غير نقد ولا بحث ولا تحليل، ‏وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكويننا، لا نستطيع أن نتخلص من ‏إحداهما، فما الذي يمنع لأن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة، وأن ‏تكون الشخصية الثانية مؤمنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى". ‏

ولسنا نعترض على هذه النظرية، بأكثر مما اعترض به هو على نفسه ‏في مقاله حيث ذكر بعد ذلك: "سنقول وكيف يمكن أن تجمع المتناقضين ‏ولست أحاول جوابا لهذا السؤال وإنما أحولك على نفسك .. الخ.‏
‏ ولا شك في أن عدم محاولة الإجابة عن هذا الاعتراض، إنما هو ‏عجزه عن الجواب، والمفهوم أنه قد أورد هذا الاعتراض لأنه يتوقعه حتى ‏لا يوجه إليه.‏
الحقيقة أنه لا يمكن الجمع بين النقيضين في شخص واحد في وقت ‏واحد، بل لا بد من أن تتجلى إحدى الحالتين للأخرى، وقد أشار المؤلف ‏نفسه إلى هذا في المقال نفسه في سياق كلامه على الخلاف بين العلم والدين ‏حيث قال بشأنهما: ليسا متفقين، ولا سبيل إلى أن يتفقا، إلا أن ينزل ‏أحدهما لصاحبه عن شخصيته كلها. ‏

أما توزيع الاختصاص، الذي أجراه الدكتور بجعله العلم من ‏اختصاص القوة العاقلة، والدين من اختصاص القوة الشاعرة، فلسنا ‏ندركه، والذي نفهمه، أن العقل هو الأساس في العلم والدين معا، وإذا ما ‏وجدنا العلم والدين يتنازعان، فسبب ذلك أنه ليس لدينا القدر الكافي من ‏كل منهما. إننا نقرر هذا بناء على ما نعرفه في أنفسنا، أما الدكتور فقد تكون ‏لديه القدرة على ما يقول، وليس ذلك على الله بعسير.‏

نحن في موقع البحث عن حقيقة نية المؤلف، فسواء لدينا إن ‏صحت نظرية تجريد شخصيتين عالمة ومتدينة أو لم تصح، فإننا على ‏الفرضين نرى أنه كتب ما كتب على اعتقاد تام، ولما قرأنا ما كتبه بإمعان ‏وجدناه منساقا في كتاباته بعامل قوي متسلط على نفسه، وقد بينا حين ‏بحثنا الوقائع كيف قاده بحثه إلى ما كتب، وهو إن كان قد أخطأ فيما كتب ‏إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شيء، وتعمد الخطأ المصحوب ‏بنية التعدي شيء آخر. ‏

وحيث إنه مع ملاحظة أن أغلب ما كتبه المؤلف مما يمس موضوع ‏الشكوى، وهو ما قصرنا بحثنا عليه، إنما هو تخيلات وافتراضات ‏واستنتاجات لا تستند إلى دليل علمي صحيح، فإنه كان يجب عليه أن ‏يكون حريصا في جرأته على ما أقدم عليه مما يمس الدين الإسلامي، الذي ‏هو دينه ودين الدولة التي هو من رجالها، المسؤولين عن نوع من العمل ‏فيها، وأن يلاحظ مركزه الخاص في الوسط الذي يعمل فيه. صحيح إنه ‏كتب ما كتب عن اعتقاد بأنه بحثه العلمي يقتضيه، ولكنه مع هذا كان ‏مقدرا لمركزه تماما، وهذا الشعور ظاهر من عبارات كثيرة في كتابه، منها ‏قوله: "وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقا ‏سيزودون عنه، ولكني على سخط أولئك وازوداد هؤلاء، أريد أن أذيع ‏هذا البحث". ‏

إن للمؤلف فضلا لا يُنكر في سلوكه طريقا جديدا للبحث، حذا ‏فيه حذو العلماء من الغربيين، ولكنه لشدة تأثير نفسه مما أخذ عنهم قد ‏تورط في بحثه، حتى تخيل حقا ما ليس بحق، أو ما لا يزال بحاجة إلى ‏إثبات أنه حق، إنه قد سلك طريقا مظلما، فكان يجب عليه أن يسير على ‏مهل، أو أن يحتاط في سيره حتى لا يضل، ولكن أقدم بغير احتياط فكانت ‏النتيجة غير محمودة.‏
وحيث إنه مما تقدم، يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن ‏والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض ‏المواضع من كتابه، إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي، مع اعتقاده أن ‏بحثه يقتضيها. ‏

وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر: ‏

‏ فلذلك
تحفظ الأوراق إداريا. ‏

القاهرة في 30 مارس سنة 1927م.

رئيس النيابة ‏
محمد نور ‏