طه خليفة يكتب: ( فراخ دنماركى .. وسمنة هولندى ! )


مع الانفتاح الاقتصادي في عهد الرئيس الراحل السادات، منتصف سبعينيات القرن الماضي، بدأت مصر تستورد سلعاً وبضائع ومنتجات ومواد خام كثيرة، من ضمنها الدجاج المجمد، ولما انتشر هذا النوع من الدجاج أطلق الناس عليه اسم (الفراخ الدنماركي)، ويبدو أن مصدره كان الدنمارك، حصل بعد ذلك تنويع في بلدان استيراد الدجاج، لكنه ظل مرتبطاً باسم الدنمارك حتى لو كان الاستيراد توقف منها.
اليوم اتجهت الحكومة لاستيراد دجاج مجمد من البرازيل، لحل أزمة نقص الإنتاج المحلي، لأسباب معروفة أثرت على مزارع تربية الدواجن، فتراجع إنتاجها بشدة، وبعضها أغلق أبوابه.
(2)
وضمن ما بدأ استيراده مع الانفتاح كانت الزبدة أيضاً، سواء زبدة حيواني أو نباتي، ونظراً لأن الريف كان لايزال بخيره، وينتج الزبدة الحيواني أو الفلاحي بكثافة تحقق الاكتفاء الذاتي، فإن واردات الزبدة النباتي أو الصناعي أو الاصطناعي كانت أكثر، وارتبطت هذه الزبدة بهولندا، وصارت تُعرف باسم (السمنة الهولندي).
وهولندا - وهى بلد أوروبي مثل الدنمارك - منتج أساسي للزبدة ومنتجات الألبان، وهى متقدمة زراعياً، ومصدر عالمي رئيسي للمحاصيل والمنتجات الزراعية، وتحتل المرتبة الثالثة عالمياً في الصادرات الزراعية، رغم مساحتها المحدودة، وعدم وجود الأرض لديها لاستصلاحها أو تجهيزها والتوسع فيها زراعياً وصناعياً وعقارياً.
منذ صغري، كنت استمع لهذين المصطلحين؛ فراخ دنماركي، وسمنة هولندي، ومن الحس الساخر لدى المصريين أنهم كانوا يتندرون على من يتسم بزيادة في الوزن، أو صاحب تركيبة جسدية معينة، بأنه يأكل الفراخ الدنماركي، أو السمنة الهولندي، وهذه السخرية لها مغزى بعيد، وهى عدم استساغة المصري حينئذ لهذا النوع من الدجاج، وتلك النوعية من الزبدة.
(3)
المصري اعتاد على تناول الدجاج البلدي الذي يتم تربيته في البيوت بالريف والأحياء الشعبية في عشش فوق أسطح المنازل، أو في مساحات فضاء من الأرض أمام وحول البيوت، بجانب مزارع تربية الدواجن.
والزبدة كان يتم إنتاجها من حليب المواشي التي يتم تربيتها والاعتناء بها في (زرائب) خاصة؛ إما داخل البيوت، أو في أماكن معدة لذلك لصيقة بها.
الزبدة الفلاحي لها تاريخ طويل في البيوت، فهى تمنح الطعام نكهة ورائحة خاصة، ولم يكن هناك بيت يخلو منها؛ طازجة، أو مخزنة، لاستخدامها في جعل مذاق الطعام رائعاً.
ولهذا، لم يكن هناك إقبال على الزبدة النباتي المستوردة؛ سواء من هولندا أو فرنسا، أو غيرها من البلدان المشهورة بإنتاجها، كان شراؤها يقتصر على شرائح من الفقراء، وكان يتم إخفاؤها عند جلبها من دكاكين البقالة، مثل العيش البلدي (خبز الأفران) الذي كان يتم شراؤه من المدن، ومن يشتريه لم يكن لديه أرض يزرعها بالقمح والشعير والأذرة، ويصنع من دقيق هذه الحبوب العيش، وكل منطقة في مصر كان لها طريقتها في إعداد الخبز الخاص بها.
ومن كان يأكل الخبز البلدي، أو خبز الأفران في الريف، هم موظفون وعمالاً كانوا يشتغلون في المناطق الحضرية، ويأتون به وهم عائدون إلى بيوتهم، وكانوا يخفونه حتى لايراه أحد، فهو مثل الفراخ الدنماركي، والسمنة الهولندي، علامة على رقة حال من يشتريهم.
(4)
الوضع في القاهرة والمدن كان مختلفاً نظراً لطبيعتها ونوعية الحياة فيها والوظائف والأعمال والأنشطة والمهن التي تسودها، فليس فيها زراعة، ولا تربية مواشي ودواجن، ولا صناعة خبز في البيوت، ولا حلب أبقار وجاموس وإعداد الزبدة والجبنة والقشدة منها.
تدريجياً حصلت متغيرات درامية في المجتمع الريفي والمناطق القريبة منه في المحافظات، وانقلبت الأوضاع، فقد صار الدجاج الأبيض بروتيناً أساسياً يتناوب مع اللحوم البلدية الحمراء على المائدة، بل يزيد عليها في عدد أيام طبخه لأن أسعاره كانت أقل من اللحوم.
والخبز المصنوع في الأفران داخل البيوت لم يعد موجوداً، فقد أُعيد بناء المنازل بالطوب الأحمر والأسقف الخرسانية المسلحة، وخلت من الأفران، وزرائب الماشية، وحظائر الدجاج، إلا قليلاً جداً، وصار هناك شح في الحليب ومنتجاته، فغزت الزبدة النباتي البيوت، وصارت مادة أساسية في الطعام، وأفران الخبز البلدي انتشرت بكثافة، ويقف الناس أمامها طوابير لشراء الخبز، ودكاكين بيع الدجاج تزايدت بشكل كبير.
ثم تصاعدت دراما الحياة الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية درجات مثيرة ومقلقة، فالأزمة أطلت برأسها على هذه المنتجات، حيث ترتفع أسعارها مع غيرها من الاحتياجات بشكل غير مسبوق.
(5)
الدجاج الأبيض الذي تتمتع فيه مصر بميزة نسبية، وتحقق الاكتفاء منه، يواجه أزمة عنيفة بسبب قلة العلف، وارتفاع أسعاره بشكل كبير، نتيجة شح العملات الصعبة لاستيراد مكونات تصنيع العلف، والكل يعلم الضجة التي أثارها قيام أصحاب مزارع تفريخ كتاكيت بإعدامها لعدم قدرتهم على تدبير العلف لها.
ولذلك، اتجهت الحكومة لاستيراد دجاج برازيلي مجمد لتعويض النقص في السوق، وهذا ليس حلاً للمشكلة، بل مجرد مسكنات، فالأساس حماية ودعم صناعة وطنية نشطة كانت توفر الأمن الغذائي بأسعار معقولة لغالبية الناس، وهذا كان يساهم في ضبط ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء، أما اليوم فهناك انفلات سعري في اللحوم البلدية (300 جنيهاً للكيلو)، وفي الدجاج الأبيض (90 جنيهاً للكيلو).
والسمنة الهولندي أو النباتي، أياً كان منشأها، ترتفع أسعارها كذلك بعد أن كانت أسعارها زهيدة، فالكيلو منها يتراوح حالياً بين 80 جنيهاً و100 جنيه، والفلاحي 200 جنيه، ويوماً ما كان رطل الزبدة منها بجنيه، وكانت العروض مغرية على الزبدة النباتي لترويجها وجذب مستهلكين لها.
ورغيف الخبز الذي كان سعره خمسة قروش، ثم عشرة، ثم ربع جنيه، يُباع اليوم بـ جنيه ونصف الجنيه، وجنيهين، ووزنه أقل من وزن العملة المعدنية، إذا وضعناها أمامه.
(6)
إنه تغيير دراماتيكي في طبيعة وبنية وتركيبة وحاضر ومستقبل وعقل المجتمع المصري، وهو تغيير سلبي، تغيير ناحية الاستهلاك الكثيف، والخروج من دوائر الإنتاج الفردي والجماعي في الطعام، وفي معظم أساسيات الحياة والمتطلبات الضرورية.
والاتجاه للاستيراد متزايد بشكل مُفزع، ويستهلك عملات صعبة هى شحيحة أصلاً، وهذا يتسبب في أزمة نقدية واقتصادية واجتماعية شديدة التعقيد، وحلها هو التغيير الجذري والشامل في السياسات العامة، وفي نمط الإدارة، وفي طبيعة خطة التنمية؛ هل هى مشروعات في الرمال والصحاري تبتلع مليارات وتريليونات الجنيهات دون عوائد عاجلة وفعالة ومجزية، أم مشروعات الزراعة والصناعة التي تُطعم الناس، وتُنتج لهم، وتُؤمنهم في يومهم وغدهم، وتُشّغلهم، وتحفظهم من تداعيات الظروف الطارئة، والأوضاع الدولية المتفجرة، والحروب المشتعلة، علاوة على توفير فرص التصدير للخارج، وفتح الأسواق، وجلب العملات الأجنبية لتأمين احتياطات نقدية ضرورية، وإحياء وصناعة الأمل.