الأحد 8 سبتمبر 2024 05:07 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

فنون وثقافة

الومضه ٥٣( جزء ثان) ..

الكاتب الكبير علاء عبدالعزيز يكتب : ملمس الوجود.

الكاتب الكبير علاء عبدالعزيز
الكاتب الكبير علاء عبدالعزيز

كانت ترقد أوقات طويله علي سريرها ذات الأربع أعمده، تضع مفتاح شقتها علي منضده خشبيه قديمه قريبه من النافذه المفتوحه دوما علي حرم الحاره، بحيث يقع المفتاح في متناول الجميع من اهل حاره السلطان، لقد غادرها زوجها منذ عشرون عاما واصبحت الست ام محمد( هذا اسمها في البطاقه )وحيده بعد وفاه زوجها ولم يستطيع إبنها الوحيد ملئ فراغ ابيه فصار يزورها عندما تسمح ظروفه فيملأ لها الثلاجه بما لذ وطاب من الاطعمه وتشغله ملمات الحياه فيغيب ثم يعود ، قبل ان تتصلد ركبتيها كانت تنتقل الي النافذه تساير اهل الحاره ويسايرونها حتي لايفتك بها وحش الوحده بعدما بلغت من العمر عتيا ، ورويدا رويدا إنشغل أهل الحاره عنها ولم يُعيرها احد اهتمام سوي جارها الطبيب الذي يهرع اليه أهل الحاره يطالبونه بالتوجه الي الست ام محمد ، لانهم يسمعون انينها داخل حجرتها وهم يمرون بنافذتها ،في الحال كان يهرع إليها الجار الطبيب حاملا معه جهاز الضغط والسماعه ويدخل يده بحذر في مثلث الشيش الخشبي الموارب الملئ بنهايات شوكيه تمردت علي طبيعه تماسكها بسبب صينيه القلل المجاوره للشيش الخشبي عشرات السنين ، بعدما ينجح في الوصول الي المنضده وإخراج يده بالمفتاح بنجاح دون إصابات، يعبر النافذه الاخري فيقابله مدخل البيت فيدس المفتاح في باب الشقه ، حينها يسمع صوتا ضعيفا يناديه من حجره السرير ذوات الاربع قوائم " اتفضل يادكتور".
يغلق الطبيب الباب الخشبي المزعج بهدوء ثم يتوجه الي حجره السيده المسنه فيقف علي بابها وقبل أن يجاور سريرها يلقي عليها بعض اخبار الحاره عند الباب ثم يدلف الي داخل الحجره بعدما تباغته بإبتسامه عريضه وبعض الضحكات الواهنه ، بعدها ترفع إحدي يديها تطلب منه أن يقيس لها النبض، وعندما تلمس أصابعه تلكم الوريد المتعب الذي لم يكل عن النبض لحظه طوال تسعون عاما، تنفرج اسارير العجوز حتي ينتهي الطبيب من عد النبضات ويطمئنها ، النبض عال يانينه ام محمد ، ولانبض الشباب!! ست وسبعين نبضه،تضحك ام محمد ضحكه واهنه ثم ترفع يدها الاخري وتطلب منه معاوده قياس نبضها باليد الاخري ، فيحقق رغبتها وينصاع لطلبها علي مضض" الطبيب الجيد لابد ان يتعامل برفق مع جيرانه ومرضاه دون ان يخبرها ان العدد واحد بالزراعين،في كل مره يسحب فيها المفتاح من فوق المنضده ويدلف الي الحجره كانت تطلب منه هذا الطلب الغريب قياس النبض بالزراعين ، يومها تساءل الطبيب لماذا تكرر طلبها هذا كل يوم منذ ان هجرت النافذه الي السرير ذات الاربع اعمده وهجرها اهل الحاره واسلموا امرها له ، ربما لم يدرك الطبيب اجابه لهذا السؤال الا بعدحين فالمراه العجوز تريد يد تلمسها فحسب حتي تشعر انها مازالت تعي وتدرك ماحولها بعدما غادرتها الايادي باستثناء يد الطبيب ، في احدي المرات ذهب الطبيب وتلقف المفتاح وتوقف بباب حجرتها يلقي عليها مزحته اليوميه ولكن السيده المسنه في هذه المره لم تطلق ضحكتها ذات الانين، لقد ماتت ام محمد بعدما دافعت عن وجودها في عالم الشهود نيف تسعون عاما واكثر.