الأحد 22 ديسمبر 2024 08:31 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

السيناريست/ عماد النشار يكتب : لا جوازة ولا جنازة

السيناريست/ عماد النشار
السيناريست/ عماد النشار

شر البلية مايُضحك
عقب التقسيم الإداري الجديد لمحافظة القاهرة الكبرى ، واعتماد مدينة حلوان محافظة مستقلة بذاتها بعيداً عن العاصمة ، ويوم وقفة عرفة وفي أحد الشوارع الذي يفصل بين محافظتي حلوان والقاهرة، يقع حادث سير يتوفى على أثره عجوز بعدما صدمته سيارة مسرعة ولاذت بالفرار ، ليستقر جثمانه في منتصف الشارع الحدودي الذي يفصل بين محافظتي حلوان والقاهرة ، وهذا مادعى إلى رفض السلطات المختصة من إسعاف وشرطة من المحافظتين الانتقال لموقع الحادث ، وكل جهة في محافظة تُلقى بالمسئولية والتبعية على الجهة في المحافظة الأخرى ، ولا تريد الإنتقال لموقع الحادث ورفع الجثة وتسيير الحركة التي توقفت ، ولا أحد يستجيب لاتصالات و استغاثات الأهالي في هذا اليوم العطلة والحار جداً ، والأهالي يخشون تحريك الجثة أو المساس بها خوفاً من المسئولية الجنائية رغم معرفتهم بشخصية القتيل العجوز ، هذا العجوز فاحش الثراء و البخيل لدرجة الشح، يملك أكثر من عقار على جانبي هذا الشارع ، وقد خرج لتحصيل الإيجارات من أصحاب المحلات والشقق ولكن القدر لم يمهله ، كما أن هذا العجوز هو خال "يوسف" والذي يستعد لزفافه على جارته وحبيبته داليا ثالث يوم عيد الأضحى.
يوسف أو أوفا كما يحلوا لجيرانه مناداته ، شاب في أواخر العقد الثالث من العمر ، يعمل فني تركيب دش ، ولديه شبكة قنوات مشفرة يقوم بتوصيلها لسكان الحي نظير اشتراك شهري ، ويعهد لإدارتها وتحصيل الاشتراكات لوالدته صاحبة الشخصية القوية و سليطة اللسان التي تقوم بإدارة الشبكة وتحصيل الاشتراكات قبل معادها لخشية الناس منها ، كما أنه ورث عن والده سيارة عتيقة وتبدو كأنتيكة وتشبه إلى حد كبير السيارات الملكية ، قد أهداها لجدة أحد الباشوات الذي كان يعمل عنده سائق بعدما قرر الباشا مغادرة البلاد بلارجعة عقب ثورة 1952 ، واعتنى الجد بالسيارة ورفض كل الإغراءات لبيعها ، واستثمرها في زفاف العرائس وتأجيرها لشركات انتاج الأفلام السينمائية، وقد ورثها والد يوسف الذي سار على الدرب الذي بدوره أورثها لوحيده يوسف من بعده ، بعدما أوصاه بها، ولكن دائمًا ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ، فقبيل موعد الزفاف يذهب يوسف لوالد داليا للتوقيع على قائمة المنقولات ووضع الرتوش النهائية لحفل الزفاف ، إلا أن والد داليا هذا السكيّر العربيد يفاجئه بشرط مجحف تعجيزي حتى يوافق على إتمام الزيجة التي عارضها ورفضها منذ البداية ولكنه رضخ مرغماً تحت وطأة لسان والدة يوسف وجبروتها وكذلك إلحاح داليا أبنته ، ووجد ضالته في إفشال الزواج في شرط أن يأتي يوسف لإحياء الفرح بالمطرب الشعبي سعد الصغير ليغني أغنية بحبك يا حمار ومعه الراقصة دينا وكذلك الحمار الذي ظهر معهما في الأغنية ، ولكي يحكم عليه الخناق ،يقوم بتهديد أبنته داليا بتطليق أمها المريضة وإلقائها في الشارع هي وأخوتها إذا ماخالفت وتزوجت دون رغبته ، ويحاول يوسف إقناع والد داليا باستحالة هذا الأمر لارتفاع تكلفته الباهظة التي تفوق إمكانياته ، ولكن دون جدوى .
ويلجأ لأمه كي تضغط على والد داليا بالترهيب ، ولكنها ترفض بشدة ، لعدم رضاها منذ البداية عن هذه مصاهرة والد داليا المشبوه ، فيحاول معها التوسط لدى خاله أخيها العجوز بالغ الثراء وشديد الشح والبخل ، ليقرضه مبلغ كي يفي بشرط والد داليا ، ولكنها ترفض أيضاً بعد صبها جام غضبها ولعناتها عليه بعدما اغتصب حقها في الميراث وجحوده معها طيلة حياتهما .
ويقرر يوسف الذهاب إلى خاله بصحبة داليا كي يستعطفانه إقراضه المبلغ ، ويصلا إلى سكنه ليلاً في المقابر حيث يقيم في إحداها رغم إمتلاكه العديد من العقارات ، وكأنه بذلك يأخذ مناعة ضد الموت ليخلد في الأرض ، ويذهبان إليه ليلًا لأنه الوقت الوحيد الذي يتواجد فيه، ويقابلانه رغم التردد أكثر من مرة للعودة من فرط الرعب الذي لقياه في الطريق إليه ، ويحاولا معه بكل الطرق من استعطاف وتملق واصطناع البكاء ، ولكنه يرفض ويطردهما ، بل ويُطفئ لمبة الجاز ويهيج عليهم الكلاب كي تلاحقهم .
ويعودا يجرا أذيال الخيبة والحسرة ، ويعجز يوسف عن إيجاد حل لهذه المعضلة ، ولكن الساعات تمر ، وداليا حبيبة العمر سوف يفقدها للأبد إذا لم ينفذ شرط والدها ، وداليا تقف عاجزة وتخشى على والدتها المريضة وإخوتها الصغار إذا ما تزوجت دون رغبة أبيها ، ولاتريد أن تكون سعادتها على حساب حياة أمها ومستقبل إخوتها ، ويتفهم يوسف ذلك ، ويقرر أن يتخلى عن وصية والده بل يتخلى عن أكثر شئ أحبه وتعلق به بعد والدته وداليا ، ألا وهي سيارته الأنتيكة ، ولكن ما باليد حيلة .
ويذهب تسبقه دموعه إلى أحد أصحاب معارض السيارات والذي طالما ألح عليه وأغرى يوسف بمبلغ كبير كي يشتري منه السيارة .
ويرضخ يوسف تحت وطأة الشرط ويبيع السيارة لصاحب المعرض ويتسلم منه المبلغ الكبير الذي يفي بشرط والد داليا ويزيد ، ولكن يوسف يشترط عليه عدم تسليم السيارة إلا بعد زفافه ويقوم بتسليمها له يوم التسجيل في الشهر العقاري مع توقيع إيصال بالمبلغ لضمان حق صاحب المعرض ، ويوافق صاحب المعرض بكرم نظراً لمعرفته بيوسف وكذلك علمه مدى تعلق يوسف بالسيارة .
ويخرج يوسف من عنده متوجهاً إلى داليا كي يزف لها البشرى ، ويصطحبها معه إلى متعهد الحفلات لدفع عربون المطرب والراقصة والحمار شرط والدها ، فاليوم هو وقفة عيد الأضحى ، ولم يتبقى سوى ثلاثة أيام على ليلة العمر التي طالما حلم بها و أنتظرها على أحر من الجمر .
وأثناء سيره يتلقى يوسف أغلى إتصال في حياته من أحد الجيران الذي يزف له خبر وفاة خاله في حادث أليم ، ويهرع يوسف إلى مكان الحادث بصحبة داليا التي اتشحت بالسواد ويتظاهرا بالحزن المرير على الفقيد ، ويسأل عن سبب بقاء الجثة في منتصف الشارع طيلة هذا الوقت ليتفاجأ برفض إثنين من أصحاب المقاهي تحريك الجثة من مكانها ، فصاحب المقهى الأول يقع مقهاة على يسار الشارع الذي يتبع محافظة القاهرة ويرفض تحريك الجثة تجاهه خشية من استدعائه في القسم والنيابة وتضيع بهجة الأيام المباركة وكي لاتعوق الإجراءات حركة المقهى في هذا اليوم الذي يعد موسم ، كذلك الأمر والرفض من صاحب المقهى الثاني التي يقع مقهاة في الجانب الأيمن من الشارع والذي يتبع لمحافظة حلوان ويخشى تحريك الجثة لنفس الأسباب ، كما أنهما يحملا ذكريات سيئة مع العجوز القتيل لأنه هو صاحب العقاريين المواجهين واللذان تقع فيهما مقهى كل منهما .. وكلما يتصل صاحب مقهى بسلطات المحافظة الواقع فيها ويصف لهم مكان الجثة يرفضوا الحضور ويلقوا بالمسئولية والتبعية على سلطات المحافظة الأخرى.
ويذهبا يوسف وداليا إلى قسم مصر القديمة التابع لمحافظة القاهرة الذي يرفض تلقي البلاغ لعدم تبعية نصف الشارع له
ويتوجها إلى قسم المعادي التابع لمحافظة حلوان الذي يلقي بالتبعية والمسؤولية على قسم مصر القديمة.
وتمر الساعات ، والجو حار والجثة تحت أشعة الشمس ، ويقوم صاحب المقهى الأول بوضع مروحتين أمام الجثة كي لاتتعفن ، ويغير منه صاحب المقهى المواجه ويأتي بلوحين من الثلج ويضعهما فوق الجثة .
ويتيقين يوسف أن خاله لن يخرج من هذه الدنيا بسهولة ويسر ، ويحاول بشتى الطرق إيجاد حل لهذه المأساة ، أو الإتصال بأي مسئول ، ولكن كيف واليوم عُطلة رسمية ولن يجد أحد ولمدة خمسة أيام حتى إنقضاء عُطلة عيد الأضحى ، والجوازة لن تتتم في موعدها ، والجنازة لن تخرج .
وتقترح عليه داليا الذهاب إلى عضو مجلس الشعب عن الدائرة ، والذي يتعاطف مع الحدث ويقوم بإجراء بعض الإتصالات ، ولكن دون جدوى ، فالأمر مُعقد ، والشارع يتبع محافظتين وقسمين شرطة ونيابتين وإدارتين صحتين وهيئتي إسعاف ، فمن منهما المسئول عن المعاينة والتحقيق ، ورفع الجثة وبيان سبب الوفاة وإذا كانت هناك شبهة جنائية من عدمها ، ومن المسئول عن استخراج تصريح الدفن ؟!
ويصطحبهما نائب الشعب إلى وزارة الحكم المحلي لعله يجد من يُفتيه في هذه المُعضلة الشائكة ، ويتقابل مع أحد الموظفين ويعرف منهم أن الجثة في منتصف الشارع ، وبعد تفكير عميق ، يقرر إنتداب إثنين من موظفين المساحة ، الأول يتبع محافظة القاهرة والثاني يتبع محافظة حلوان ، لعمل مقايسة ومعرفة موقع الجثة أقرب إلى أي محافظة ، ويفرحا يوسف وداليا لذلك ويقدما جزيل الشكر للنائب والموظف ، ولكن قبل خروجهم يتذكر الموظف أن اليوم وغداً ولمدة خمسة أيام عُطلة ، ولكنه يعود ويعطيهم عناوين موظفي المساحة بعدما قام بالإتصال بمديري كل مديرية ،، وطلب منهم الذهاب لهما بصفة ودية ومحاولة إقناعهما بكل الطرق .
وتبدأ رحلة المعاناة والبحث ليوسف وداليا ، ويحل الليل ويشعر أصحاب المقاهي أن هذا الوضع المأسوي حجب عنهم الزبائن ، فيقوم صاحب المقهى الأول بإحضار ستارة خضراء وماسورتين يدقهما في الأرض ويسحب عليهما الستارة ليجعل ساتر بين المقهي وبين الجثة ، هذا ما يثير غيرة صاحب المقهى الثاني الذي يقوم بنفس الأمر من ناحيته ، ويصبح مكان الجثة كضريح لأحد الأولياء في منتصف الشارع .
ويصل يوسف بصحبة داليا إلى مسكن موظف المساحة الأول التابع لمحافظة القاهرة بعد منتصف الليل نظراً لأنه يسكن في قرية بعيدة ، ويوقظاه من النوم بعد استعطاف و حيلة ومكر ودهاء ، ولكن الموظف يرفض بشدة الذهاب معهما لأنه أول مرة في حياته يقوم بشراء خروف العيد ، وسوف يضحي هذا العام محققاً حلم عمره كي يتباهى ويفتخر وسط أهل قريته ، ولكن يوسف بدهاء يغريه بعجل هدية ، مما يجعل الموظف يسيل لعابه ويوافق على الفور ، ولكن قبل أن يخرجوا، زوجة الموظف تهدده بذبح الخروف أثناء غيابه ، ولكن يوسف يقرر اصطحاب الخروف معهم بعد شجار وعراك شديد مع الزوجة والأولاد خرج منها هو وداليا والزوج بكدمات وسحجات دامية .
ويذهبوا لموظف المساحة الثاني التابع لمحافظة حلوان، وعندما يصلوا إلى مسكنه في إحدى القرى البعيدة ، يقفز الخروف من السيارة هارباً ، ويركضوا خلفه ليلحقوا به في الشوارع والأزقة والغيطان وسط تهليل وصياح الأطفال والأهالي الخارجين لصلاة العيد ، وبعد معاناة ينجح الأهالي بالإمساك بالخروف وتقيده جيداً وإعطائه لهم ، وعندما يعودوا لمسكن الموظف يجدوه قد خرج لأداء صلاة العيد ، ويصلوا إلى المصلى ويعانوا في البحث عنه حتى يدلهم أحد الأهالي عليه بعد الفراغ من الصلاة ، ويعرضوا عليه الأمر ويرفض بشدة ، لأن أبناءه في إنتظاره حتى يصطحبهم للإفطار عند أمه ثم يذهبون لتناول الغداء عند حماته ، لأن هذا اليوم ينتظرونه من العام إلى العام حتى يأكلوا ويشبعوا من اللحم الذي نادراً ما يدخل بيتهم ، ولكن يوسف يداهنه بمكر ويتنحى به جانباً واعداً الموظف الثاني بإهدائه خروف الموظف الأول الذي لا ينتبه لحديث يوسف ، بينما داليا تتولى إقناع زوجته ، الموظف الثاني يفرح بذلك ويقوم بتوديع أسرته ويذهب معهم
.ويصلوا حيث مكان الجثة صباحاً ، وما أنا يرى يوسف الضريح والمريدين والدراويش الملتفين حوله يتبركون به حتى يهلل ويكبر فرحاً ، بعدما ظن أن الحكومة قررت دفنه في منتصف الشارع ، بل وشيدت له ضريح بعدما أظهر كرامات ، ويتذكّر أن خاله قضى سنوات عمره الطويل مقيماً في المقابر لايبرحها إلا يوم تحصيل الإيجار الشهري ، ومن الطبيعي والبديهي عندما يموت ، يموت ويُدفن وسط الشارع وبين أملاكه ، ولكنه يُصدم عندما يعرف حقيقة الأمر ، ويقوم بإبعاد المريدين والدراويش بصعوبة بعدما يتشاجروا معه في عراك دامي ، وينجح أخيراً في إبعادهم بمساعدة أهالي الحي ، وتتم المقايسة بعد تركيز ودقة متناهية ، ولكن يجدوا أن الجثة مسجاة على الخط الفاصل في منتصف الشارع ، ونصفها يتبع القاهرة والنصف الثاني يتبع حلوان ، مما يجعل يوسف يقترح عليهم شق الجثة نصفين ، وتقوم كل محافظة بمعاينة النصف التابع لها واستخراج تصريح الدفن له ، وهذا يناسب يوم عيد الأضحى ، فلا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها .
ويحاول يوسف بيأس إقناع كل من حوله بأن هذا تكريم في حد ذاته وإعجاز لخاله ، لأنه مات في محافظتين في وقت واحد ، وأنه سوف يدخل التاريخ من أوسع أبوابه ويصبح حديث العالم ، ولكن محاولة إقناعهم تبؤ بالفشل ، وهذا مايجعله يتوجه للجثة ويقوم بتوجيه اللوم والعتاب لخاله بضيق وحنق ، ولكن أثناء ذلك يلحظ أن رأس خاله يكاد محيطها بالكامل يميل ويقترب من يسار الشارع الذي يتبع محافظة القاهرة ، وهذا في قانون كرة القدم يُحتسب هدف ، وهذا مايحاول أقناعهم به بمكر ودهاء ، أن هذه إشارة من خاله الذي أظهر كرمات يعبر بها عن حسه الوطني وإنتمائه للعاصمة دون غيرها ، حتى ينتهى هذا الموقف العصيب ، ويؤيدا الموظفان هذه الرؤية حتى ينتهيا ويعودا ظافرين بالأضحية الموعودة ، وتبدأ بوادر الأزمة في الإنفراج ، ولكن صاحب المقهى الآخر يعارض مجدداً ويرفض إحتساب رأس الجثة في الجانب التابع له ، لأن ليست الرأس في كامل محيطها تقع في هذا الجانب ويطلب إستقدام حكام أجانب حتى يقررا تخطى الرأس من عدمها ، ويتعهد بتحمل نصف تكاليف الحكام، بينما يتحمل النصف الآخر صاحب المقهى الآخر الذي يرفض بشدة لأنه لم يعترض ولم يطلب ا حكام أجانب وموافق على النتيجة بالحكم المصري مما يجعل صاحب المقهى الأول يهددهم باللجوء للفيفا .
وينتصف النهار وينصرف الموظفان ، ويتملك اليأس من يوسف وداليا ، وتنشر الصحف هذه المأساة ، ولكن دون جدوى ، حتى تقع المفاجأة التي لم تكن في الحسبان وتقلب الأحداث رأسًا على عقب !


لاجوازة ولا جنازة :قصة وسيناريو وحوار عماد النشار

السيناريست عماد النشار مقالات عماد النشار السيناريست جنازة ولا جنازة الجارديان المصرية