الكاتب والناقد اللبناني حسام محيي الدين يكتب عن : لبنان في قلب المسرح العربي
الجارديان المصريةإذا ذهبنا إلى امتياح الإلماعات الوازنة لأجناس الإناسة الثقافية في الوطن العربي ، فمن البديهي أنْ نحتار فيها بين الفاضل والمفضول ، لكننا نزكّي " أبو الفنون " وسيلةَ اجتماعٍ مدينيّ تترجم جلّ أزماتنا بين الأمس واليوم ، منطلقين من الريادة التي عُقِدتْ لصانعيه منذ منتصف القرن التاسع عشر ، وشكلت خزانة الفن والمعرفة التي حرّرتْ جزءًا من مقولات العقل العربي ودفعت بها نحو عالم الجمال . انطلقت فهومات الريادة من عند مارون النقاش الذي قدّم مسرحه للعرب في مدينة بيروت بعد عودته من أوروبا ، نعني " البخيل " معروضة للجمهور عام 1847 ، عربيةً خالصةً المكوّنات من النص إلى العرض ، مع ما لاقته من نجاح كبير على الرغم من جهل الجمهور بهذا الفن الجديد . لم يتلبّث النّقاش على مستوى التطبيق العملي للمارسة المسرحية ، بل سبقها بخطبةٍ مطوّلة هي أوّل بيانٍ مسرحيٍّ عربيّ يتناول كينونة المسرح الوليد في بيئتنا العربية من زاوية رسالية وتربوية تسهم في نهوض الأمة وتقدمها ، مع بسط ما يمكن أن يواجهه هذا المسرح من صعوبات اجتماعية وتقاليد ومعتقدات شرقية وما يجب أن يكون عليه حتى يكتب له النجاح دائماً لأجيال قادمة ، ما يؤكد رؤيته الريادية للمستقبل ، والتي تلقفها بالعناية من بعده ابن شقيقه سليم النقاش وهو يفتح عهد الهجرة المسرحية من لبنان إلى مصر . لكننا نتوقف هنا قليلا لنقول أنّ التألق الثقافي / الفني / المعرفي للبنانيين ، معطوفاً على روح المبادرة الفردية الناجحة جداً حتى المثالية داخل لبنان وخارجه في بلاد العرب ، ساهمت إلى حد كبير في نهضتهم المسرحية والثقافية طبعا ، حيث من الواجب التنبه إلى أننا عندما نقول العرب فنحن نعني مصر التي كان تقود المشهد الثقافي العربي في إفساح المجال لحرية القول والعمل والابداع من أعلى سلطات الدولة ، نعني بذلك الثلاثي المستنير : اسماعيل ، توفيق ، وعباس حلمي ممن تداولوا عرش الخديوية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى امتداداً لسلالة جدهم محمد علي باشا التي كانت ناظماً للنهضة العربية وآمال روادها بما كرسته من حالة تنويرية في العلوم والآداب والفنون ، يمكن الجزم أنها وضعت أرض العرب آنذاك على سكة التطور في العصر الحديث . قدِمَ سليم النقاش مصر عام 1876 بوصفه " الفتى اللبيب والحاذق الأديب " وكأول الوافدين في مجال " أبو الفنون " كما أعلنت " الأهرام " آنذاك ، مصطحباً معه أديب اسحق ويوسف خياط ممن شكلوا نواة فرقة متحدة استقرت على مجموعة رجال ونساء للتمثيل على مسرح دار الأوبرا الشهير في القاهرة . لم يكن النقاش وحيداً ، فقد جايله مجموعة وازنة من رواد المسرح اللبنانيين الذين عملوا في مصر ، وشكلوا واجهة ثقافة القطر المصري الطليعية من خلال نشاطهم المسرحي ، الذين واظبوا على تقديم أعمالهم المكثفة بين الاسكندرية والقاهرة إلى مدن مصرية أخرى ، وامتد نشاطهم إلى الدول العربية الأخرى ، فلعبوا دوراً أساساً وهاماً جداً في تعريف أهلها بالمسرح ، وكان لهم الفضل في اندفاع وحماس كثيرين لتأسيس هيئات وظواهر وفرق شكلت نواة المسرح في بلادهم ، فحرثوا الأرض وبذروها وتعاهدوها حتى نمتْ وأثمرت مسرحاً رائعاً ومُقنِعاً استمر حتى اليوم ؛ ففي العام 1908 قدِمتْ فرقة سليمان القرداحي إلى تونس وقدّمت عدة مسرحيات لاقت إقبالاً شعبياً كبيراً وشكّلت الشعلة الأولى في البلاد التي دفعت المثقفين التونسيين إلى التفكير بضرورة إنشاء فرق مسرحية تحتفي بالمسرح كرسالة اجتماعية ثقافية وأدبية فنية ، وكوسيلة حضارية للرقي بالوطن وتقدمه ، كانت أولها عام 1909 تحت إسم " الجوق المصري التونسي " ، أما جورج أبيض فكان صاحب السبق في زرع بذور الشجرة الفرجوية في غير بلد عربي ؛ ففي العام 1926 زارت فرقته العراق ، ولعبت على خشبات مدينتي بغداد والبصرة ، مما فتح أعين العراقيين على جماليات " أبو الفنون " في منطلقاته وأفكاره ، فأشعلت هذه الجولة الشرارة الأولى لتأسيس مسرح عراقي له ممثلوه وكوادره ، وكان الممثل " حقي الشبلي " هو المحرك الأساس لهذه الانطلاقة بعدما مثّل لأوّل مرة مع فرقة أبيض نفسها في " أوديب ملكا " التي قدمتها في بغداد خلال تلك الرحلة ، لينشىء فرقته الخاصة عام 1927 من ممثلين لبنانيين ومصريين وعراقيين منهم : بشارة واكيم ومحمد المغربي وعبد اللطيف المصري وغيرهم ، كما أنّ الشبلي نفسه حضر إلى مصر عام 1929 للتدريب والعمل تحت إشراف اللبناني عزيز عيد لمدة عام ، عاد بعدها إلى العراق وأسس فرقة جديدة هي " فرقة حقي الشبلي " عام 1930 . لم يهدأ جورج أبيض في نشر الفكرة المسرحية في العالم العربي ، إذ باشر جولة مسرحية عام 1921 لدول شمال أفريقيا من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب ، كان لها أثرها الكبير في تعريف هذه البلاد على المسرح ، وانفتاح جماهيرها على هذا الفن الجديد والاقبال عليه ، وهذا مما لا شك فيه من مآثر العمل الثقافي للّبنانيين في العالم العربي ، فزارت فرقة أبيض ليبيا وقدمت فيها عروضا عديدة أيقظت الحس الفني لدى الجمهور ، ومنها انتقل إلى تونس في العام نفسه ( عام 1921 ) فكان ذلك حدثا هاما في تاريخ المسرح هناك لم يقتصر على تحقيق الحضور الجماهيري للعروض ، إنما تجاوزه إلى الاتفاق مع أبيض على تدريب الفنانين التونسيين في التمثيل والاخراج ، فانصرف إلى ذلك واضعاً الأسس العلمية لممارسة المسرح في تونس إنما من باب المسرح الجاد ، فكان بذلك أوّل من أدخل هذا الشكل المسرحي إلى البلاد خلافاً للفرق السابقة كفرقة سليمان القرداحي وسلامة حجازي ممّن قدّموا مسرحاً للاضحاك يقوم على المبالغة في الحركات والأصوات . تابع جورج أبيض باتجاه الجزائر وقام بجولة فيها عرضاً لمسرحيّتيه : صلاح الدين الأيوبي ، ثارات العرب ، وهي وإنْ لم تجد إقبالاً كبيراً كما في تونس ، إلا أنها وضعت لبنة صلبة في بناء المسرح الجزائري ، وأقلّه في تعريف الجزائريين على هذا الفن ، وهو ما حصل كذلك في المغرب من دون إسقاط دور بعض الفرق الأوروبية التي زارته لتلك الغاية . لنا أن نعرج قليلا على بعض وجوه نجاحات جورج أبيض ، إذ أطلق العديد من الممثلين والممثلات كــ " روز اليوسف " إبنة مدينة طرابلس الفيحاء واسمها فاطمة اليوسف ، التي مثّلت للمسرح من عام 1912 وحتى عام 1925 وهو العام نفسه الذي دخلت فيه عالم الصحافة فأسست فيه مجلة " روز اليوسف " المعروفة ، أضف إلى ذلك أن أبيض هو أوّل من فتح باب التأليف المسرحي في مصر ومنها إلى العالم العربي بما عرضه من نصوص جمهور الكتّاب والشعراء تشجيعاً لهم ، كما كان عالماً بمسائل الاخراج والاضاءة والديكور والأزياء مما رآه وتعلمه في باريس ، وركّز عليها لتكون بمستوى النص والأداء . ولم يكن اللبناني الأصل أمين عطالله اللبناني أقل اجتهادا من جورج أبيض ، فبعد نشاطه في مصر ، ذهب إلى بغداد عام 1931 وكان له دور كبير في تعريف الجمهور بالمسرح من خلال عروضه هناك ، كما أبدع لبنانيون آخرون عربياً في ريادة مختلف عناصر العمل المسرحي ، أشهرهم على الاطلاق عزيز عيد أوّل من مارس الإخراج بمعناه الاحترافي وكوظيفة مستقلة تضاف إلى وظيفتي التأليف والتمثيل في العالم العربي منذ العام 1912 ، إلى اسكندر فرح صاحب أول فرقة مسرحية عربية اشتغلت بنجاح لخمسة عشر عاماً متواصلة من عام 1891 وحتى العام 1905 ، وفي ذلك كله تأكيد على أنّ انطلاق المسرح في لبنان ، ونموه ونهضته في مصر ، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، كانت القاعدة الصلبة التي أطلقت هذا الفن في معظم العالم العربي ، وذلك على الرغم من الأوضاع المادية الصعبة التي واجهت الكثير من الفرق في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ المسرح العربي ، ما دفع بعض صانعي المسرح إلى تشجيعه بشكل أو بآخر ، ومنهم نجيب الحداد الذي دعا إلى حماية حقوق المؤلفين المسرحيين العرب وتبني الدولة لهذه القضية كي لا يضيع على المؤلف كده وتعبه ، وهي أول دعوة من نوعها للحفاظ على حقوق التأليف في تاريخ المسرح العربي بل وفي تاريخ مختلف أجناس مؤلفات المعارف والعلوم والآداب الأخرى .
#الحسام محيي الدين
ناقد وكاتب
بيروت