دكتور علاء الحمزاوى يكتب : لغــة القرآن وهُـويَّة الأُمَّة!
الجارديان المصريةــ اللغة عنوان هُـويَّة متحدثيها، وكل لغة تُنسَب إلى دولة إلا العربية فهي تُنسَب إلى أمَّة، وهي من أقـدم اللغات الحية، فهي لغة قبائل عاد وثمود وجُرْهُم وغيرهم، واليمن هي مصدر العربية الأولى، وهي إحدى اللغات الساميَّة: العربية والعبرية والسَّبئية والحِمْيرية والحبشية والأَمْهرية والكَنعانية والآرامية والآشورية (باختلاف)، وسُميت بذلك لأن شعوبها تنتهي إلى سام بن نوح، وهذا يعني أن العرب ساميُّون؛ وهنا يثبت كذب عبارة "معاداة الساميَّة" التي يرددها الصهاينة بمفهوم "معاداة اليهود"، فليسوا وحدهم الساميين، ولو صحت العبارة فهي تعني معادة العرب!
ــ العربية هي لغة النبي الكريم، أحبها وافتخر بها، فقد رُوى عنه "أحب العربية لثلاث: لأني عربي والقرآن عربي ولغة أهل الجنة العربية"، و"أنا أفصح العرب بَيْدَ أني من قريش"، أي أنا القريشي أفصح العرب مع أن قبيلتي ليست أفصحهم، وقال: "ألا إني أوتيت جوامع الكلم واختُصر لي الكلام اختصارا"، وكل هذه الأحاديث إذا تأكدت صحتها فإنما تدل على علوِّ شأن العربية، والواقع يؤكدها، فكان النبي أفصح الناس، فهو وحده الذي تكلم بكل لهجات العرب الفصحى؛ لأنه تلا عليهم القرآن برواياته المتعددة التي تمثل لهجاتهم؛ ذلك لأنه أحاط باللغة علما، سئل: "ما لك أفصحَنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ فقال: هذه لغة إسماعيل حفَّظنيها جبريل"؛ ولذا أُوتي النبي جوامع الكلم، وهذه إحدى ست فضائل فُضِّل بها على الأنبياء، ومعناها أن الله جمع له معانيَ كثيرة في ألفاظ قليلة، ومن ذلك قوله: "إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ"، "الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ"، فهذه الجمل الموجزة شرحها يطول.
ــ وكون العربية لغة أهل الجنة ذكره بعض المفسرين واللغويين، وليس ذلك مؤكدا، لكن ليس هناك ما يعارضه؛ فيبقى مُحتمَل الصحة، بل ورد أن لغة آدم في الجنة كانت العربية، وتوقف العلماء عند آيـة {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ}، والتعليم هنا بمعنى الإلهام أو القدرة أو المعرفة، أي ألهمه تسمية الأشياء أو أقدَرَه على تسميتها أو عرفَّه أسماء كل ما خلق من إنسان وحيوان وطير ونبات، أو عرفه أسماء الأشياء الموجودة آنذاك بما فيها العقلاء، وربما علَّمه ذلك بالعربية.
ــ وأما أعظم شرف للعربية فكونها لغة القرآن، وأكد ربنا هذا الشرف في إحدى عشرة آية كقوله: {وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} أي بلغة عربية واضحة لمتحدثيها وضوح الشمس؛ فيكون القرآن حُجَّة عليهم، وكقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وسبب نزول الآية أنَّ اليَهُود سألوا النبي عبر المشركين عن أحداث قصة يوسف، فنزلت الآية لتخبرهم جميعا بأن القرآن سيقص أحداث القصة بلسان عربي مبين؛ ليتمكنوا من فهمها، فالمعنى أنَّا أنْزَلْنا هَذا الكِتابَ الَّذِي فِيهِ قِصَّةُ يُوسُفَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، ويُستنبَط من الآية أنه لم ينزل كتاب قبله بالعربية.
ــ وكون القرآن بلسان عربي مبين لا يمنع أن بعض كلماته غير عربية مثل {إستبرق} و{سندس}، وكل أسماء الأنبياء أعجمية إلا أربعة: هُود وصالِح وشُعَيْب ومُحَمَّد، والمقرَّر لدينا أن تلك الكلمات أعجمية الأصل عربية الاستعمال، نزل القرآن بها والعرب تستعملها، وهذه ميزة للعربية بأنها لغة متسعة تستقبل من اللغات الأخرى ما تحتاج إليه، وهذا حال اللغات القوية.
ــ والعربية أوسع اللغات الحية معجما واشتقاقا وتصريفا، فرُوي أن عدد كلماتها يتجاوز اثني عشر مليون كلمة، وهذا كلام غير مؤكد، ورُوي أن المستعمل من مفرداتها لا يتجاوز عشرين ألف مادة لغوية تتسع لحاجات التأليف والتعبير، في حين أن بعض معاجمها تحوى أضعاف هذا العدد، فمثلا معجم تاج العروس للزَّبيدي يحوى مائة وعشرين ألف مادة لغوية، والمادة هي الجذر اللغوي.
ــ وتتميز العربية بالثراء الدلالي والاستعمال المجازي، فاللفظ الواحد له عـدة معان حسب السياق، والقرآن عامر بذلك، فمثلا (الخير) ورد بعدة معان: المال كقوله: {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ}، والإيمان كقوله: {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يؤتكم خيرا}، والإسلام كقوله: {مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَلَا ٱلۡمُشۡرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ خَيۡرٖ مِّن رَّبِّكُمۡ}، والتفضيل كقوله: {وَأَنَا۠ خَيۡرُ ٱلۡمُنزِلِينَ}، والطعام كقوله: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلۡتَ إِلَيَّ مِنۡ خَيۡرٖ فَقِير}.
ــ واللغة جزء من هُويّة الأمـة وعنوان لقوتها وضعفها، والعناية بها سِمة حضارية؛ لذا قيل: "إن قــوة اللغة في أمّةٍ ما تعني استمرارية هذه الأمة بأخذ دورها بين بقية الأمم؛ لأن غلبة اللغة بغلبة أهلها، ومنزلتُها بين اللغات صورة لمنزلة أمّتها بين الأمم"، وتجلت العناية بالعربية في دستورنا فقد نصَّ أن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية"، وتجلّت في الرئيس ناصر الذي أصرّ أن يلقي كلمته في الأمم المتحدة بالعربية في جلسة سبتمبر 1960، فكان أول رئيس يتكلم بالعربية في الجمعية العمومية، وطالب آنذاك بإدخال العربية لغة رسمية في الأمم المتحدة على أن تتحمل الدول العربية النفقات المترتبة على ذلك مدة ثلاث سنوات، وتم التنفيذ في 18 ديسمبر 1973؛ لتكون العربية هي اللغة السادسة في الأمم المتحدة، تسبقها الإنجليزية والفرنسية والروسية والأسبانية والصينية، ثم قررت الأمم المتحدة أن يكون 18 ديسمبر يوما عالميا للغة العربية من كل عام، وفي 18 ديسمبر 2022 وافق الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) على اعتماد العربية لغة رسمية له مع الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأسبانية.