الأحد 5 يناير 2025 09:13 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

دكتور علاء الحمزاوى يكتب : فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ؟!

دكتور علاء الحمزاوى
دكتور علاء الحمزاوى

ــ هذا استفهام قرآني جاء في سياق حديث إبراهيم لقومه؛ {إِذۡ قَالَ لِأَبِیهِ وَقَوۡمِهِ مَاذَا تَعۡبُدُونَ. أَئِفۡكًا ءَالِهَةࣰ دُونَ ٱللَّهِ تُرِیدُونَ. فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ}، كانَ إبراهيم يُحِبُّ للناس ما يُحِبُّ لنفسه، فعـزَّ عليه أن يكون أبوه وقومه كافرين، فقال لهم: {مَاذَا تَعْبُدُونَ}؟ وهو يعلم أنهم يعبدون الأصنام، لكنه سأل استنكارا، ثم أكده بسؤال توبيخي؛ فقال: {أَئِفۡكًا ءَالِهَةࣰ دُونَ ٱللَّهِ تُرِیدُونَ} أي أتريدون أن تتخذوا آلهة من دون الله افتراء وكذبا؟ وقَدَّمَ المَفْعُولَ {آلهة} على الفعل للانتباه، وقـدَّم المفعول له {أَئِفْكًا} على المفعول به؛ ليؤكد أن عبادتهم للأصنام كذب وافتراء على الله، ثم أعقب ذلك بقوله: {فَمَا ظَنُّكم بِرَبِّ العالَمِينَ}، وهو استفهام تهديدي تحذيري من سوء عاقبتهم عسى أن يؤمنوا، فالمعنى أتظنون برب العالمين أن تشاركه هذه الأصنام في العبادة فهي مساوية له؟ فما ظنكم بعقاب الله حتى تجرأتم عليه كذبا وبهتانا؟ وهو كقوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ}؟
ــ والظن هنا يحمل معنًى سلبيا عكس ظن المؤمن بربه، فالظن في القرآن ورد سبعا وعشرين مرة، وله معنيان: معنى سلبي مع الكافرين كقوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}، ومعنى إيجابي مع المؤمنين كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ}، ولذا فالمؤمن حسَن الظن بربه؛ إذا سُئل: مَا ظنك برب العالمين؟ جاءت إجابته: هو الرحمن الرحيم غافر الذنب قابل التواب يعفو ويصفح ويغفر ويسمح؛ لأن المؤمن لديه أمل كبير في كـرم الله ورحمته، والأمل هو توقع حدوث الخير ثقة فيمن يُرجَى منه الخير، وهو ضد اليأس والقنوط، ولا يكون الإنسان إنسانا بدون أمل، فهو متطلب ضروري لعمارة الأرض، هو نِبراس يضيء الطريق أمام المؤمن في ظلمات الحياة؛ لأنه قـوة تدفع للعمل وتبعث النشاط، فما الذي يبعث الطالب على التعب والمثابرة إلا الأمل في النجاح؟ وما الذي يصبّر المريض على الدواء إلا الأمل في الشفاء؟
ــ ومع أن الأمل معناه إيجابي فقد ورد في القرآن مرتين بمعنيين متضادين كالظن: معنى سلبي، ومعنى إيجابي، المعنى السلبي في قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، فالسياق سياق ذمّ وإنكار وتقبيح، والأمل مقرون باتباع الشهوات والركون إلى الدنيا على أنها الغاية، وهو بمعنى توقُّع طول العمر، والمعنى الإيجابي في قوله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}، فالسياق سياق مدح وترغيب فيما عند الله من خيرٍ، فجاء الأمل متعلقا بعطاء الله ومغفرته ورحمته وتوفيقه وتأييده، والأمل الإيجابي يتطلب إيمانا وثقة بالله، فالمؤمن منهي عن اليأس ومأمور بالتفاؤل والأمل ولاسيما في رحمة الله وفضله وعفوه وحفظه؛ لذا نهانا الله عن القنوط، فقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}.
ــ وبثَّ القرآن الأمـل وحسن الظن بالله في نفوس المؤمنين من خلال حديث الأنبياء، فقال إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}، فالمؤمن لا ييأس مهما كان المرض عاصيا، بل يرجو أجر المرض، ويسأل الله العافية، ونهت الملائكة إبراهيم عن القنوط لتبُثَّ الأمل في قلبه، قالوا له: {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ}، ولم يكن قانطا، إنما هو نهي احترازي، والدليل أنه رد قائلا: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}، ونَهَى يعقوب أبناءه عن اليأس ليزرع الأمل فيهم، فقال لهم: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، وتجلَّى الأمل عند موسى لما خرج مطاردا إلي مدين، فكان لديه أمل في نصر الله، قال تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ}، كما تجلَّى الأمل عند زكريا، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى}، وتحمّل نبينا محمد ما لم يتحمله أحد أمــلا في نصر الله؛ لذا قال: "إنَّ اللهَ زوَى (طوى) لي الأرضَ فرأَيْتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، فإنَّ أُمَّتي سيبلُغُ مُلْكُها ما زوَى لي منها"، وتجلَّى الأمل في مواقف كثيرة للنبي، منها وعْـدُه لسراقة بتاج كسرى وهو في أشد لحظات الضعف من منظور بشري! وتحقق ذلك في عهد عمر، ولا يغني الأمــل عن الأخذ بالأسباب.
ــ والأمل صفة للمؤمن واليأس صفة للكافر، قال الله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}، ونفهم من الآية أن المؤمنين قلة وأن الكافرين كثرة؛ لأن المستثنى أقل من المستثنى منه.