الأحد 19 يناير 2025 08:45 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

المسرحي العراقي د.بهاء الجنابي يكتب : مسرح الطفل

المسرحي العراقي د.بهاء الجنابي
المسرحي العراقي د.بهاء الجنابي

مسرحية (أنا والمهرج)
إخراج د. زينب عبد الأمير

(لقد تمكنت المخرجة زينب عبد الأمير بذكاءٍ كبير ، ودراية أكاديمية واعية من الاقتراب من أهم عناصر ومرتكزات المسرح التعليمي، دون الإطالة في ذلك، لتفادي الملل الذي يتسم به الأطفال عند الإطالة)


حين ندرك الأهمية الكبيرة للأطفال على صعيد إعداد وبناء الأجيال القادمة، سندرك الأهمية الكبيرة على تبني المشاريع التي تستهدف الطفل. وإذا كان المسرح منصةً للإبداع والتنوير وبث القيم التي يجب التحلي بها، سندركُ حينها أهمية أن يكون لدينا مسرحاً للطفل. وهنا لابد لنا أن نقيم ونثمن أي مبادرة تصبُ في هذا الاتجاه. في الأمس حين تلقيتُ دعوةً من الزميلة الدكتورة زينب عبد الأمير لحضور العرض المسرحي المخصص للأطفال مسرحية (أنا والمهرج)، على مسرح المنصور في يوم أمس 18/01/2025، شعرتُ على الفور بسعادة غامرة في حضور هكذا عروض، ليس لأنني من هواة المسرح أو العاملين عليهِ فحسب، أو ممن يكتبون في الدراسات المسرحية والنقدية، بل لأن العرض سيكون مخصصاً لعرض مسرحية تستهدف الأطفال. ولأننا إذا أحببنا استشراق صورة المستقبل، فننظر إلى الطفل. ولأن المجتمعات المتطورة تولي جُلَّ اهتمامها بثقافة الطفل للتعيد صنع الحياة. وهنا لابد من الإشادة بدور الدكتورة زينب عبد الأمير التي كتب نص المسرحية، وأعدتها، بل وأخرجتها، عندها سنعرف حتماً حجم الدور الكبير الذي قامت بهِ، فضلاً عن الوقت المستغرق في الإعداد والتحضير وعمل التمارين الخاصة بالعرض. ومن الأمور المفرحة جداً هو ذلك الحضور الكبير والمتفاعل مع العرض، من النخب الثقافية، وأساتذة المسرح العراقي، ومن المهتمين في شأن الطفولة، وكذلك الأطفال المنبهرين والمتفاعلين مع العرض.
إن مسرحية (أنا والمهرج) كانت متكاملة في الكثير من جوانبها، والتي تدلُ وتنمُ على دراية تامة من قبل الزميلة زينب عبد الأمير للهدف المنشود من ذلك العمل. وبدأً سيلاحظ المراقب بأن السينوغرافيا المعدة للعرض كانت تتماشى مع روح العرض المسرحي، وقد أُخذَ في الاعتبار المستهدفون من ذلك وهم (الأطفال)، حيث طغت الألوان المحببة والتي عُمِل فيها عوامل التضاد اللوني ليضيف بهجةً ويضيف عواملَ جذبٍ كبيرة تتماشى مع عقلية وذائقة الأطفال. فكانت معمارية خشبة المسرح مدروسة دراسة تامة بحيث تحقق عملية الإضافة لروح النص، وليس زج الأشياء والألوان بدون دراسةٍ أو دون توظيف. ويمكننا توكيدُ ذلك من خلال الشاشة الكبيرة التي توسطت خشبة المسرح، والتي وظفتها المخرجة توظيفاً عالياً حيثُ كانت في منتصف رؤية الخشبة، وهذا يعطينا تركيزاً لدى مشاهة العرض، لأنها كانت محور العملية المسرحية، ونقطة بث الهدف الذي طرحته المسرحية. وحين نعرجُ على الأزياء المستخدمة والتي تزينت بالألوان المبهرجة انسجاما مع عنوان العرض والشخصية المحورية فيهِ، وهو (المهرج)، سنكتشفُ بأن تلك الأزياء كانت قريبة إلى روح المهرج في عروض السيرك، وهي تحملُ عنصر الإبهار ومتعة المشاهدة لدى الأطفال.
كانت المسرحية هادفة بامتياز كبير من خلال تسليط الضوء على بعض الظواهر المجتمعية التي بدأت تسود في مجتمعاتنا، وبالأخص عند فئة الأطفال. إن معالجة تلكَ الظواهر المجتمعية ومحاولة وضع الحلول الناجعة لها، بلغةٍ سلسة وواضحة وبسيطة، جعلت من المسرحية أنموذجاً قريبا من المسرح التعليمي الهادف. لقد تمكنت المخرجة بذكاءٍ كبير ودراية أكاديمية من الاقتراب من أهم عناصر المسرح التعليمي، دون الإطالة في ذلك لتفادي الملل الذي يتسم به الأطفال عند الإطالة. وحين أنتصر العقلُ في نهاية المطاف، كانت رسالةً واضحة للأطفال، بأن بعض الظواهر التي ممكن أن تؤدي إلى حالةٍ من الإدمان، وتحمل في طياتها الكثير من السلبيات والأمراض المجتمعية ممكنٌ معالجتها في الإصرار، وفي إعمال العقل، والتعلم من تجارب الآخرين. وحين نلاحظ ذلك التفاعل والتناغم الكبير من قِبل الأطفال، ندركُ تماماً أن المسرحية كانت قريبة منهم حين وصلت رسالة المخرجة لهم لكي يتقبلوها وهم فرحين.
ولو عدنا إلى العرض المسرحي وكيفية توظيف بعض مبادئ المسرح الملحمي في هذا العرض، سنجد أن ذلك يُحسبُ على الزميلة المخرجة، فحين وظفت دور الراوي على خشبة المسرح، كانت قد استخدمت أهم ركائز المسرح الملحمي، التي أعتمدها مؤسس المسرح الملحمي برتولت برشت. أن الدور الكبير الذي يقع على عاتق الراوي في الإداء الدلالي للعرض المسرحي من خلال توظيف فن السرد والمخاطبة المباشرة مع الجمهور، ذلك لكي يحقق مبدأ إشراك الجمهور في العلمية المسرحية، كي يتمكن من جلب اهتمام المتلقي مع العرض، وكسر الرتابة في ذلك، فضلاً عن تغيير الدور الذي يلغبه المتلقي من دورٍ غير مؤثر إلى دور المتفاعل والناقد والمتحمس لذلك العرض. هنا جاءت الراوية التي لعبت دور التفاعل مع الأطفال بحركاتٍ رشيقة ومتناسقة ومدروسة بعناية تامة. وقد حركت الراوية روح التفاعل والمشاركة عند الأطفال الحضور من خلال توجيه الأسئلة المباشرة لهم وإشراكهم في عملية استنباط الأجوبة الصحيحة.
من الأمور التي يجب أن نسلط الضوء عليها هو آليات وتقنيات العرض المسرحي، ومن تلك التقنيات هي كسر الحاجز الرابع بين المتلقي والممثل، وقد يتأتى كسر الجدار الوهمي الرابع من خلال جملة من الإجراءات على خشبة المسرح تنتج في مجملها الوصل إلى ما يروم المخرج الوصول إليه. واحدة من تلك الإجراءات هو أن يخرج الممثل، أو من يناطُ إليهِ الدور من بين الجمهور ليضيف شيئاً من كسر المألوف على خشبة المسرح، وهذا يعدُ إحدى التقنيات المتبعة في المسرح الملحمي. وقد نرى في مسرحية (أنا والمهرج) هذهِ الحالة في مشاهدَ مختلفة، حيثُ أجادت المخرجة الدكتورة زينب في توظيف ذلك توظيفاً يخدمُ العرض المسرحي، وليس ثقلاً مضافاً إلى العرض. قد يقولُ قائل بأنها تقنية متكررة في العديد من العروض، وقد سبقها في ذلك الكثير، والقولُ هنا: أننا لا نغفلُ أن العرض موجهٌ للأطفال، وإن خروج الممثل من وسط الجمهور يعطي للطفل حالة من الاندهاش والمتعة والاستغراب الذي يشدهُ لمتابعة ما سوف يؤلُ إليه الحال. وجاء هذا التوظيف منسجماً مع روح النص الموجه إليهم.
جانبٍ آخر مهم في هذهِ المسرحية ألا وهو توظيف الأغاني التي تسلل النص وتضيف إليهِ حركة تشد الأطفال، سيما إذا كانت تلك الأغاني معروفة لديهم. وحين نرى ذلك المزج بين التمثيل وفن الدمى، الذي تجيدُ بهِ الدكتورة زينب لوجدنا ذلك الخلط المتجانس بين الدمية والإنسان، حين ظهرت مجموعة من الدمى المُختارة بإتقانٍ تام لتضيف للعرض (وللأطفال تحديداً) انسجاما تاماً مع ما يدور على خشبة المسرح.
وخلاصة القول بأن المسرحية كانت تجربة فردية تحمل بين ثناياها سمات متعددة من مدارس متعددة ممزوجة بحنكة العارف بتلك المدارس المسرحية، وذلك التباين الثّر الذي أضفى للعرض المسرحي شكلاً يميزهُ عن باقي العروض. فنرى أن مسرحية (أنا والمهرج) تقترب حيناً من:
• المسرح التعليمي، وذلك من خلال إبداء النصح والإرشاد الموجه إلى الأطفال في محاولة للوصول إلى استنباط المواعظ والتعلم من تجارب الآخرين.
• وتقترب في مشاهدَ أخرى من مسرح الدمى والعرائس، حين نشاهد في تلك الدمى التي امتزجت في الأداء مع الممثلين.
• وحيناً آخر تحمل هذهِ المسرحية في جوانب كثيرة سمات المسرح الملحمي، من خلال كسر الجدار الرابع، وكذلك من خلال الراوي الذي يتبنى سرد الأحداث، ومن خلال التوظيف الأمثل للأغاني.
وهنا لا يسعنا إلا أن نقول شكراً كبيرة للزميلة العزيزة الدكتورة زينب عبد الأمير ونشد على يدها في الاستمرار في تبني كل ما من شأنهِ أن يقدم للأطفال كل ما هو مفيد ويخدم العملية التربوية، لأننا بحاجة ماسة لذلك في زمنٍ صعب طغت عليهِ وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض الألعاب الإلكترونية التي تنمي الرغبة في استخدام العنف وتحبيبه لدى الأطفال.

1c2f48d4993d.jpg
4c54a44a7aa3.jpg
682a7475a522.jpg
fc365f7e2b1e.jpg