الأربعاء 5 فبراير 2025 05:53 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الدكتور علاء الحمزاوى يكتب : نعـمـة الأمـــن:

ددكتور علاء الحمزاوى
ددكتور علاء الحمزاوى

ــ كثر حديث القرآن عن الأمـن، وفي ذلك دلالة على قيمة هذه النعمة؛ فهي من أعظم النعم، ولإدراك قيمتها قدَّم القرآن نقيضها على غيره من مظاهر الابتلاء؛ فقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}، فبدأ بالخوف والجوع؛ لأنهما أعلى مظاهر التهديد للإنسان، يمنعانه من الاستقرار والتعمير والتعليم والعبادة، وأكد القرآن ذلك في قوله: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}، فالمعنى أن الله يبدأ بالإنعام، فينعم ويغدق على الناس دون مقابل، فإن شكروا النعمَ زادتْ، وإن جحدوها عوقبوا، ومن العقاب سلب النعم، وسُمِّيَ العقاب بالجوع والخوف لباسا مجازا؛ لأن أثرهما يظهر على كل ملامح الإنسان، فكأنهما لباس يغطي جميع جسده، وهذا هو الجزاء الذي أكده قوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.
ــ ونفهم من الآية أن الأمـن والإطعام أعلى نعمتين على المجتمع، وامتن الله بهما على أهل مكة {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}، فلما تمادى بعضهم في الكفر دعا النبي عليهم: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فلما اشتد عليهم القحط والفقر قالوا: يا محمد ادع الله فإنا مؤمنون، فدعا النبي لهم، أما الأمـن فقد أحاطهم بعد خوف شديد عاشوه في حادثة الفيل لدرجة أنهم تركوا مكة قُبَيل وصول أبرهة، وقالوا: إن للبيت ربا يحميه، فهُـزِم أبرهة وتحقق الأمن لهم ببركة الحرم؛ قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}، كما يتحقق الأمـن ببركة الإيمان؛ قال الله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ}، أي الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك هم الآمنون.
ــ نعمة الأمن تمثل ثلث متاع الدنيا؛ ففي الحديث: "يا ابن آدم إذا أصبحت معافي في بدنك آمنا في سربك (بيتك) عندك قوت يومك فقد حيزت لك الدنيا"، هذه النعم الثلاث الصحة والأمن والطعام هي مقوِّمات القـوة لأي أمة، وإذا أمعنا النظر فيما حولنا نستشعر نعمة الأمـن، فلنا فيهم عبرة وعظة؛ وهذا ما يستوجب علينا التحمُّل والصبر على مواجهة التحـديــات المؤلمة.
ــ ولا يقتصر الأمـن على حماية المواطن من التهديد والسرقة والنهب والقتل وما أشبه، بل يشمل الأمن المجتمعي والأمن الاقتصادي والأمن السياسي والأمن الفكري، ويتحقق الأمن المجتمعي بنشر العـدل وأمن الجار وأمن الشارع، وتلك مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع؛ ففي الحديث "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، وفي الحديث "واللهِ لا يؤمِنُ واللهِ لا يؤمِنُ واللهِ لا يؤمِنُ، قالوا: وما ذاكَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: مَـن لا يأمنُ جارُهُ بوائقَهُ قالوا: وما بوائقُهُ؟ قال: شرُّه"، وفي الحديث "فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِس فَأَعْطُوا الطَّريقَ حَقَّهُ، قالوا: ومَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رسولَ اللَّه؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَر وكَفُّ الأَذَى ورَدُّ السَّلامِ وَالأَمْرُ بالْمَعْروفِ والنَّهْيُ عنِ الْمُنْكَرِ"، ويتحقق الأمن الاقتصادي بعدالة التوزيع حتي لا يكون هناك غنيٌّ مُتْخَم بالشبع وفقيرٌ مُدْقِع لا يجد ما يسدُّ به رمقه، قال تعالي عن المال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ}، ويتحقق الأمن السياسي بحماية المجتمع من التهديدات والصراعات والحروب، والصحيفة المدنية وصلح الحديبية نموذجان للأمن السياسي في العصر النبوي، والأمن الفكري أن نحفظ شبابنا من الانحراف، فأمن العقول لا يقل عن أمن الأرواح والأموال، ومن الانحراف الفكري الإلحاد الذي سقط فيه بعضنا، وتتحمل الدولة بمؤسساتها الدينية والتعليمية والثقافية والإعلامية مسؤولياتها عن تحقيق الأمن الفكري للمواطن، فقد غضب النبي من عُمر عندما رآه يقـرأ نصا من التوراة، قال له: "أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! واللهِ لو كانَ مُوسى حيًّا ما وسِعَه إلا اتّباعِي"، فلا نترك شبابنا فريسة لما تبثه وسائل التواصل من انحرافات؛ فيضلوا بتقصيرنا في المسؤولية التي أمرنا بها النبي في قوله: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".
ــ والأمـن الشامل يحقق الاستقرار المجتمعي الذي يؤدي إلى التعمير والتقدم، وهو هدف إلهي منشود من العباد، قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، وقد أنعم الله على مصرنا الحبيبة بنعمة الأمـن، فجعلها ملاذا آمنا؛ قال تعالى: {ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ}، ومصر هي الدولة الوحيدة التي كرَّمها الله بالأمـن يشاركها البيت الحرام {مَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، ويشاركها أهل الجنة، فــ{هُمْ فِى ٱلْغُرُفَٰتِ ءَامِنُونَ}، وهذا يعني أن مصر لها مكانة عظيمة عند الله؛ لذا قال النبي: "فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذِمَّـة ورَحِمًا"، الذِّمَّة الأمان والحُرمة، وذلك من جهة ابنه إبراهيم وأُمِّه مارية، والرَّحِم القَـرابة من جهة إسماعيل وأُمِّه هاجر.
ــ كما تحقق الأمن للنبي في رحلة الإسراء والمعراج، فكانت الرحلة طمأنينة له بمعية الله بعد وفاة عمه وزوجه، فأزالت عنه الخوف من مشركي مكة، وفيها فرضت الصلاة التي هي أمن للمؤمنين من العذاب.