السبت 25 يناير 2025 06:28 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الكاتب الصحفي إسماعيل أبو الهيثم يكتب : درس عظيم من فلاح حليم لمتعلم غير بليغ !!

الكاتب الصحفى الكبير إسماعيل أبو الهيثم
الكاتب الصحفى الكبير إسماعيل أبو الهيثم

شاع بين الناس القول المأثور: الإنسان حيوان ضاحك، ولا شك أن الضحك حالة يختص بها الإنسان عن سائر المخلوقات. فلم تخل أمة من الأمم من تراث ساخر تناقلته الأجيال جيلا بعد جيل. ويشتمل التراثُ العربي على العديد من الكتب التي تناولت الفكاهة وما تداوله الناسُ فيما بينَهم من قصص يتندَّرونَ بها وتظهرُ جوانب حياتِهم الإجتماعية في قالب ساخِر. وقد ألف الإمام إبن الجوزي المتوفى عام ٥٩٧ هجرية كتابه " أخبار الحمقى والمغفلين". ولربما كان ذلك الرافد يجد منبعه فيما تناقلته الأجيال من أقوال لبعض الصحابة والتابعين في موضوع الفكاهة. ومن تلك الأقوال المأثورة قول أبي الدرداء: "إني لأستجم نفسي ببعض الباطل كراهية أن أحمل عليها من الحق ما يكلها"، ومنها أن عليا بن أبي طالب كان يقول: "روحوا القلوب واطلبوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان".

لقد شاءت لي الأقدار أن أجالس أناس عظام وزراء وقضاة ومحافظين بل ومشايخ كبار ، ورجال الدين المسيحي ، الكل يقرض الدعابة القولية في قالب وقور !! شأنهم شأن معظم الشعب العربي والمصري الذي يحب الدعابة والفكاهة.

لكن تحولا كبيرا حصل في ميدان الفكاهة والتنكيت عندما تتحول إلي استهزاء بحمل الأقوال والأفعال على الهزل والخوض في ذات المستمع أو أحد أفراد المجتمع الغائبين، بلغة غير مقبولة لمجرد اضحاك الجالسين . وهو لعمري أمر قميء فضلا عن كونه إنه منهي عنه شرعا !!

أقضي معظم وقتي بعد المعاش أمام كتبي للقراءة أو الكتابة .واقتطع جزء منها للجلوس عند قطعة أرض زراعية (صغيرة ) امتلكها . والفرصة سانحة للجلوس مع الخاصة والعامة من الناس .

وذات أحدي الجلسات جلس مستظرفا معنا ( حامل لشهادة جامعية ) . وبطبيعة المستظرفين تقييء هذا المستظرف في المجلس بفضلات القول ، وقطع الحديث الضاحك بالسخرية من أحد جلساء المجلس المحترمين ( رجل فلاح ). فما كان من الرجل الوقور إلا السكوت ولم يفتح فمه بحرفا واحداً.
فهممت بالقيام منهيا المجلس حتي ينصرف المستظرف الي غير رجعة لأي مجلس نحن به !!

خلف هذا المشهد جدلاً بعد انتهاء الجلسة ، فهناك من رأي إنه كان علي الرجل أن يعنف ذلك المستظرف ، وهناك من رأي الصواب بما فعله الرجل الفلاح .
وقبل احتدام الخلاف بين أصحاب الرأيين فإذا بالرجل الغير متعلم ، والذي يحمل شهادة الحكمة والخبرة والرزانة والوقار ينهض خطيبا في المجلس قائلاً : بأنه فضل الحلم علي التهور ، وأنه استخدم العلاج الناجع للمرض العارض ، وأنه رأي أن كظم الغيظ أفضل من معاتبة هذا (الجاهل ) الذي يفتقد إلى الي مهارات الحديث ، وأدب مخاطبة الناس .

بالفعل احتدم الخلاف بين الرجل الوقور وبين بعض أفراد المجلس الذين رأوا أنه كان ينبغي عليه توبيخ المستظرف .

وعندما طلب مني الرأي ، مع من أقف ، معهم أم مع الرجل الوقور ؟ فقلت : بل مع هذا الرجل أقف ، لأن درء المفسدة مقدم علي جلب المصلحة ، فضلا علي أن الحلم يرفع المرء ولو كان غير متعلم ، ويؤلف القلوب ولو كانت متنافرة ، ويزيل العداوة والحسد ولو كان مستحكما، وكفي بالحلم فضلا أن عواقبه محمودة، والندامة منه مفقودة.

فالحليم لا ينتصف من جاهل أبدا ، لاسيما وان كان هذا الجاهل مفوه ويحمل (شهادة جامعية) ..عملا بما قاله الأحنف بن قيس : مَن لم يصبر على كلمة سمع كلمات، ورُبَّ غيظٍ قد تجرَّعته مخافة ما هو أشدُّ منه !!

فالحلم يحفظ على نفس الرجل عزتها وكرامتها وحشمتها، ويرفعها عن مجاراة السفلة والسوقة، ويكثر الناس من حوله .. عملا بما قاله معاوية رضي الله عنه لعَرابة بن أوس: بم سدت قومك يا عرابة؟ قال: "يا أمير المؤمنين كنت أحلم على جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في قضاء حوائجهم" ،
فعادة البشر أنهم يكرهون جافي الطبع، ولا يجتمعون حول من يأخذه الغضب لأدنى هفوة إلا أن يساقوا إليه سوقاً أو يحتاجون إليه ضرورة !!

فالتأني والحلم دليل رجاحة العقل واتزان النفس وعلي النقيض فإن التهور و الاندفاع و الطيش والهوي و السفه و العجلة دليل خفة العقل وجهالة النفس ، وقد يظهر ذلك في سرعة الغضب ، وإظهار الجزع من أدني ضرر، والتفوه الفادح، أو استعمال قواه فيما لا ينبغي وكما لا ينبغي ، فالتهور خلق مستقبح . حتي ولو كان لمستظرف !!

هدأت الأمور وان كان في صدر كل فريق ما يؤيد توجهه .الرجل الحليم غير نادم على فعله ، وباقي أفراد المجلس غير راضين عن تصرفه تجاه استظراف المستظرف .!!؟

أوقدنا الحطب ووضعنا عليه براد الشاي تهدئة للأوضاع ، وقبل غليان الماء والأعصاب ، مر المستظرف عائدا مع إبنه ، وعندما عرض علي الإبن مقالة الأب تأسف واستحي من قوله ، وقدم كل انواع وأحجام وأشكال الاعتذار وانحني مقبلاً يد الرجل الذي رفض ذلك أيضا بكل تواضع.

وهكذا أثبت الرجل الحكيم أن الحِلمُ سيِّد الأخلاق، ورأسُ الفضائل، وأصلٌ جامع للمحامد، أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الحِلم ضبط النَّفس عند تهيُّجها، وكَظْمُ غيظها عند غضبها، وإلجامُ ثَورتها، وإطفاء حدَّتها، ومَن قدَر على ذلك فهو حكيم ولو كان غير حاملاً لشهادة ، واسعُ الصدر، قويُّ الخلق، له حُكم على شهوته، وله سُلطة على هواه، ومَن حَكَم شهوتَه سلِم من شرٍّ كثير، ومن تسلَّط عقلُه على هواه فاز بخيرٍ كبير، وبلغَ من الكمال منزلةً لا ينالها إلاَّ الصابرون، ومكانةً لا يرقاها إلاَّ بتأييد من ربِّه؛ لقوَّة دينه، وسلامة يقينه، وترَفُّعه عن الصَّغائر، وتَحْليقه فوق منطقة الانتقام، وفوق سُحُبِ الغيظ، عملا بقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ﴾ [فصلت: ٣٤ - ٣٦].

الدرس المستفاد من الحادثة وكانت سبباً للمقال ، أن كثير من الناس ينقادون لغضبهم ، ويستسلمون لهياج أنفسهم ، وقليل منهم من يستطيع ضبط نفسه، وكَتْم ثورته، وحبسِ عواطفه؛ فذلك أمرٌ عسير إلاَّ على الشجعان، وخُلُق سامٍ رفيع، يعزُّ على سفيه الأحلام، بَذِيء اللِّسان، والحمقى للأسف كَثرة لا حصر لها، والمتسامحون الشجعان ندرة قليلٌ عددُها، ومَن ملَك نفسَه وحكَمها فساقَها إلى ما يريد، خيرٌ ممَّن حكَمَتْه نفسُه فساقتْه إلى ما لا يريد، ومن حبس كلمةَ السوء كان سيدًا لها، ومن لَفَظ قالَةَ الشرِّ أصبح عبدًا لها، مقيَّدًا بها، محاسَبًا عليها، ومن أَمسك الفضلَ من قوله سَلِم، ومن أطلَق لِسان الذمِّ نَدِم، وكفُّ اللِّسان خُلُق الشُّجعان، وإطلاق عنان الملام من سوء الخُلق وزَعْزعة الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله يحبُّ الحليم الحيِيَّ، ويبغض الفاحشَ البذيء)، وامتدح الله المتقين بقوله تعالى: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران:١٣٤].

الخلاصة:
بالحلم يُدفع السوءُ، ويُردُّ الأذى، ويَخجل المسيءُ، ويستحي المذنِب، وتحلُّ المحبَّةُ والوفاق محلَّ التباغض والشقاق، بالحلم يسُودُ غير المتعلم على حامل الدكتوراة، ويمتلك القلوبَ، ويستميل الأفئدة، ويصل لأغراضِه من طريقٍ حميد، سهلٍ مفيد، وفي الحلم راحة الجسد من آلام الانفعال، وراحةُ القلب من الغضب ، لأن الغضب سببًا لأمراض جسديَّة، وعِلَل نفسيَّة، وصدماتٍ عنيفة قلبيَّة، الحلم دليلُ الرجولة، وعنوان الشَّهامة، ومظهر المروءة، وإن كان الصديق لا يُعرَف إلاَّ في الشدَّة، والشجاع لا يَظهر إلاَّ في الحرب، فالحليم لا يُعرف إلاَّ في الغضب، قال صلى الله عليه وسلم: (ما تعدُّون الصُّرَعَةَ فيكم؟)، قالوا: الذي لا تَصرعه الرجال، قال: (لا، ولكنَّه الذي يَملِك نفسَه عند الغضب).