الجمعة 31 يناير 2025 11:05 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

دكتور علاء الحمزاوى يكتب : الحال أبلغ من المقال

دكتور علاء الحمزاوى
دكتور علاء الحمزاوى

ــ قديما قالوا: «زيادة الفعل على القول أحسن فضيلة، ونقص الفعل عن القول أقبح رذيلة»، و«لسان الحال أصدق من لسان المقال»، والمراد بذلك أن تأثُّــر الناس بالسلوك الحسن أبلغ من تأثرهم بالقول الحسن، فينبغي أن يكون المرء قـدوة لغيره في النصح والإرشاد والتوجيه أمرا بالخير ونهيا عن الشر؛ فقد وبَّخ الله بني إسرائيل على سلوكهم المناقض لذلك قائلا لهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}، النسيان بمعنى الترك، فكانوا يأمرون بالطاعات والخيرات، ولا يفعلون شيئا منها، ثم زادهم الله توبيخا بقوله: {وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ}، أي كيف تتركون البرَّ وتأمرون الناس به وأنتم أهل علم تعرفون قُبح هذا السلوك، ثم زاد الله في الاستنكار والتوبيخ فقال لهم: {أفَلا تَعْقِلُونَ}، أي أن هذا السلوك يدل على انتقاص تفكيرهم، فلا عُـقول لهم؛ فصاروا كالأنعام بل أضل سبيلا، والاستفهام فيه حث على التعقل.
ــ وكان هذا السلوك المشين صفة للمنافقين وصفة لجماعة افتخروا بأعمال لم يعملوها وصفة لجماعة قالوا: لو عرفنا أحبّ الأعمال إلى الله لعملنا بها، فلمَّا عرفوها قصَّروا في العمل، فعاتبهم الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}، ووصفهم الله بالمؤمنين للتقريع؛ أي أراد أن يعنِّفهم على موقفهم، كما أراد أن يحـثهم على أن يوافق فعلهم قولهم، فجاء الاستفهام استنكارا وتوبيخا وتحذيرا، كقوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياءَ اللَّهِ}، ثم بيَّن الله لهم أن هذا السلوك مرفوض آثــم فاعله؛ فقال لهم: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}، المَقت هو البُغْض الشديد، أي أن الله يبغض هذا السلوك بغضا لا تسَامُحَ فيه، وفي ذلك تهديد ووعيد لمن يتصف به، وهو ما أكده النبي في قوله: «يُؤتَى بالرجل يومَ القيامة فيُلقَى في النار فتَنْذَلِقُ أقتابُهُ (أمعاؤه)، فيَدُور بها كما يَدُور الحمار في الرَّحَى (حجر الطحين)، فيجتَمِع إليه أهلُ النار، فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنتُ آمُر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه».
ــ لذا يجب أن يكون المسلم منسجما كلامه مع سلوكه، فيصدِّق فعله قوله ولا يخالفه، وهذا هو منهج الأنبياء، قال شعيب لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، أي لا أريد أن أفعل شيئا أنهاكم عنه، وقال النبي: «صَلُّوا كما رَأَيْتُموني أُصلِّي»، و«خُذُوا عنِّي مَناسِكَكُمْ»، و«سُئِلَتْ عائِشةُ عن خُلُقِ رسولِ اللهِ، فقالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ»، أي أن النبي كان فعَّالا لتوجيهات القرآن، فما أمر أصحابه بشيء ولا نهاهم عن شيء إلا وهو مُمتثِل له؛ فمدحه الله بقوله تعالى: {لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، فأمر النبي بمحاسن الأخلاق ونهى عن مساوئها، وكان قـدوة في ذلك، فكان أوسع الناس صَدْرًا بشوشا جميلا سهلا، ليس فظا ولا غليظا ولا فاحشا ولا صَخَّابًا، وَلَا يَجْزِي السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، ولكن يعفو ويصفح، ويغفر ويسمح، ويجُود ويمنح، فلم يردَّ سائلا، إما يعطيه أو يجبر خاطره بكلمة طيبة.
ــ من توجيهاته الكريمة أنه أمر بالتخفيف في صلاة الجماعة، فقال لمعاذ: «أفتان أنت يا معاذ؟»، وكان يخفف في الصلاة بالناس إذا سمع بكاء طفل إشفاقا عليه وعلى أمه، وكان يأمر بأداء الأمانة، ولما هاجر أمـر عـليًَا أن يردَّ الأمانات التي اؤتمن عليها، وكان يحث على الكرم والإيثار، وكان أكثر الناس إيثارا، ذات مرة أهدتْه امرأة عباءة فقَبِلها النبي ولَبِسَها، فأُعجِب بها رجل، فقال: ما أجملها عليك يا رسول الله! اكسُنيها، فأعطاها النبي له، فلما انصرف النبي قال الصحابة للرجل: ما أحسنت في طلبك إياها؛ لأن النبي بحاجة إليه، وأنت تعلم أنه لا يُسأَل شيئا فيمنعه، فقال: رجوتُ بركتها حين لَبِسَها رسول الله لعلي أكفّن فيها.
ــ إن كثيرا ممن اعتنقوا الإسلام في البلاد الأجنبية قديما وحديثا اعتنقوه من خلال معايشتهم لمسلمين يطبقون الإسلام في أخلاقهم وعلاقاتهم ومعاملاتهم؛ مما يؤكد أن الفعل أفضل كثيرا من القول في تقديم الإسلام للآخرين؛ ففي كتابه "نظرات في تاريخ الإسلام" ذكر المستشرق الهولندي دُوزي أن معاملة المسلمين الطيبة لأهل الذمة أدى إلى إقبالهم على الإسلام وأنهم رأوا فيه اليسر والبساطة مما لم يألفوه في دياناتهم السابقة»، وفي كتابه "حضارة العرب" ذكر الفرنسي غوستاف لوبون أن القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن، فقد ترك العربُ المغلوبين أحراراً في أديانهم، وبعدلهم دخلت بعض الشعوب في الإسلام واتخذوا العربية لغة لهم.
ــ ولمَّا تخلَّى المسلمون عن القيم الإسلامية تخلَّفوا، بينما أقام الغرب حضارته معتمدا على القيم الإنسانية الإسلامية؛ ما دفع محمد عبده عقب مؤتمر باريس عام 1881 أن يقول: "وجدت في الغرب إسلاما، ولم أجد مسلمين، ولما عُـدت للشرق وجدت مسلمين ولم أجد إسلاما".