السبت 1 فبراير 2025 04:45 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

السيناريست عماد النشار يكتب : ”سَطوَةُ التَّفَاهَةِ وَصِرَاعُ الوَعِي”

السيناريست عماد النشار
السيناريست عماد النشار

في كل عصر من العصور، كانت هناك معركة دائمة بين الفكر الجاد والتفاهة، بين العقول الراجحة والصخب الفارغ، بين الكلمة العميقة والصوت العالي الذي يخلو من المعنى. وحينما نتأمل كلمات تشيخوف عن ماهية المجتمعات الفاشلة، ونستحضر ما قاله ابن خلدون، رائد علم الاجتماع، ومن سبقهما ومن تبعهما من المفكرين والفلاسفة، ندرك أن المعنى واحد: فالتفاهة حين تتصدر المشهد، والعقل يُقصى، يصبح الفشل حتميًا، وتتكرر الظاهرة في المجتمعات التي لم تكتمل فيها شروط الوعي والنضج.
حينما تصبح القضايا السطحية هي مركز الاهتمام، وحينما يتصدر المشهد من لا يحمل فكرًا أو رؤية، ندرك أن هناك خللًا عميقًا في الأولويات. إن وسائل الإعلام ووسائل التواصل الحديثة ضاعفت من هذه الظاهرة، حيث بات التافهون أكثر قدرة على الوصول إلى الجمهور، وصارت الشهرة تُمنح لمن يُثير الضجيج أكثر من أولئك الذين يحملون فكرًا وقيمة.
لا يعني هذا بالضرورة أن الجماهير تتعمد الابتعاد عن الوعي، ولكنها في كثير من الأحيان تُقاد إلى ما يُقدَّم لها، ويُعاد تشكيل ذائقتها وفقًا لما يُفرض عليها. فعندما تسيطر المادة الترفيهية الرخيصة على المشهد، فإن العقول تتكيف معها، ويتحول الفكر الجاد إلى استثناء، بل قد يُنظر إليه على أنه عبء ثقيل أو خطاب غير جذاب. ويتم إقصائهم على طريقة "اخرجوهم من قريتكم"
هذا لا يعني رفض الفن أو الترفيه، فالثقافة الحقيقية لا تقوم على الجدية وحدها، بل على التوازن بين الإمتاع والمعرفة، بين التسلية والوعي. المشكلة ليست في الترفيه ذاته، وإنما في نوعية الترفيه الذي يُصنع وفي مكانة الفكر في المجتمع. المجتمعات الناجحة ليست تلك التي تخلو من التسلية، بل تلك التي تملك القدرة على التمييز بين الترفيه الهادف والتفاهة التي تكرس السطحية.
إن المعركة بين الفكر والتفاهة مستمرة، لكن الرهان الحقيقي ليس على كسبها في لحظة واحدة، بل على بناء الوعي على المدى الطويل. وكما أن للتفاهة وسائلها في الانتشار، فإن للفكر الجاد أيضًا أدواته، ويبقى الأمل معقودًا على من يدركون أن الكلمة العميقة، وإن كانت أبطأ في الوصول، فإنها أبقى أثرًا وأعمق تأثيرًا.