الإثنين 3 فبراير 2025 01:02 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

فنون وثقافة

د.كمال يونس يكتب: مسرحية لعنة بيضاء ..جولة مع أبرز المقالات النقدية

دكتور كمال يونس
دكتور كمال يونس

تتناول رصدا لرؤى تحليلة نقدية لأربعة من المسرحيين العراقيين( بشار طعمة ، ]د.علي جابر الطائي،د. سعد عزيز عبد الصاحب ، د.ميثم فاضل عبد الأمير للعرض المسرحي العراقي لعنة بيضاء الذي قدمته نقابة الفنانين فرع بابل .تأليف احمد عباس ، إخراج د. محمد حسين حبيب ، وهي محاولة لتحفيز القارئ للإبحار في عالم النقد المفترض فيه التجرد والشفافية بغية الارتقاء بالعملية المسرحية

بشار طعمة
المسرحية التي تسلط الضوء على الحالات الشاذة في المجتمع من خلال سرقة الناس لبعضها البعض،،، الذي لم يسرق اصبح هو الشاذ في هذا المجتمع، قدمت الفكرة بحوار انيق..
لأول مرة منذ فترة لم اشاهد عرضا مسرحيا ممتعا كالذي شاهدته يوم الخميس 28/3/2024 لما يحتويه من أداء مسرحي مميز من كل الممثلين وعلى راسهم الفنان احمد عباس الذي قدم أداء مسرحي جميل لممثل كبير ، كذلك الفنانون: علي حسين علوان، علي عدنان التويجري، د. فقدان طاهر، ظفار فلاح، علاء القره غولي، مخلد الجبوري، والمجاميع التي قدمت عرضا جميلا بأشراف الكرو كراف عبدالله احمد، وأداء حيدر الريماس، سعيد علاء، إبراهيم الدرويشي، حسين عامر، ياسر العكيلي، حمودي كريم ،،، الإضاءة للمبدع علي المطيري الذي عودنا ان يقدم لنا اضاءة منسجمة مع العرض المسرحي ومعبرة عن كل حالة وفي كل مشهد من خلال الانتقال السلس بين كل حالة مسرحية .. الديكور للدكتور محمد حسين حبيب الذي وظفه بشكل رائع وباستخدامات كثيرة ومعبرة، لم يكن ثقل على العرض المسرحي بل كان خير سند للعرض، أيضا الموسيقى كان لها حضور في هذا العرض التي نفذها علي عادل، الإدارة المسرحية إبراهيم عبدالله الذي عمل خلف الكواليس كان له دور في هذا العرض.. قاد هذا الفريق المايسترو.،، المخرج المتمكن من ادواته الاخراجية د. محمد حسين حبيب الذي قدم لنا سمفونية مسرحية رائعة، باستغلاله للديكور والمجاميع بصور بصرية جميلة خدمت العرض المسرحي كثيرا .. لأول مرة لم يكن لدي الملل وانا اشاهد عرض مسرحي، كنت أتمنى ان لا ينتهي لأن النص والأداء والإخراج شدة الجمهور وجعل الصمت المطبق هو المسيطر على القاعة،، أخيرا نطمح ان نرتقي بمسرحنا العراقي بهكذا عروض مسرحية معبرة بعيدة ان الاسفاف والتهريج وبعيدة عن عدم فهم ما تقدمه بعض الاعمال باسم الحداثة التي تقدم لنخبة معينة،، هذه المسرحية تقدم لكل الفئات من المشاهدين، احسنتم وبوركت كل الجهود التي أنجزت هذا العمل، بقي ان أقول هذا العمل الثاني الذي اشاهده للمخرج د. محمد حسين حبيب. بعد مسرحية الراديو التي قدمت أيضا في بغداد وعلى مسرح الرافدين كانت من الاعمال المهمة للمخرج د. محمد حسين حبيب والفنان احمد عباس، ومهند بربن.. لم اشاهد الاعمال السابقة التي قدمها د. محمد وهذا قصور مني .. استمعت بالعرض المسرحي.. لعنة بيضاء ،،، كانت ليلة بيضاء عشناها معكم على مسرح الرشيد.

د.علي جابر الطائي
أفكار الحداثة وتنوع عناصر العرض (مسرحية لعنة بيضاء أنموذجا)
يتحدد الأسلوب الإخراجي في المسرح وانتمائه الفكري في مجموعة من العروض المسرحية لأحد المخرجين ، والموزعة على فترة زمنية ليست قصيرة بسمات مشتركة بينها، وهو بالحصيلة أحد اشكال تمكن المخرج من أدواته الإخراجية، معتمدا على خبرته المخرج وما تأثر به من المدارس الإخراجية العالمية، وهو تماماً ما يلاحظ بمتابعة عروض المخرج (د.محمد حسين حبيب) فمع تغيير مادة العروض من جانب النص الذي يختاره المخرج بين الإعداد عن رواية كما فعل في (آلام السيد معروف لغائب طعمة فرمان) ،وبين نصوص أجنبية كما في نص (الراديو لكين تسارو) ، وبين نص عراقي هو العرض الأخير (لعنة بيضاء لأحمد عباس) يحافظ المخرج على أيقاع عرضه المنتمي للحداثة في أفكارها وطروحاتها الداعية إلى التمسك بالأصل.
يشار أن المرجع لتحديد السلوك هو وجود المرجعيات الاجتماعية المعرفة للخير والشر، وهي ما تمنع اختلاط الأمر على الناس، وفي هذا المقام يؤيد عرض لعنة بيضاء فكرة أن انتشار الفساد والسرقات في مدينة لا يعني بالضرورة حالة تمثل الخير فقط لأنها كثيرة، وإنما مرجعية تحديد الصواب هي عقل الجمهور الذي صفق للمثقف عندما وقف على الجسر ضمن أحداث العرض، ولأن الحداثة برؤية المخرج تحمل في أفكارها قضية تتمثل في تحملها مسؤولية الدفاع عن الأصيل، والدعوة إلى المرجعيات الاجتماعية كحاكم على سلوكيات الأفراد كانت لعنة بيضاء محكمة لكشف خيوط الجريمة التي يراها المؤلف، ويصورها المخرج على أنها سبب انتكاس القيم والمثل العليا في المجتمع، وقد توزع أطراف القضية بين لصوص يؤدون سلوك السرقة وآخرين ساكتين عن الفاسدين ومتعاونين معهم، وفي قبال ذلك وقف المثقف كما يصوره الأدب في سردياته يصدح بخطابات لا أذان تصغي لها، ومع حركة زمن العرض تتفاقم المواقف ليتحول الصراع إلى مقايضة المثقف بين أن يشارك اللصوص أو يحرق.
كان في عناصر العرض ما يؤكد ثبات الأسلوب أيضاً فما وضع في العرض من عناصر لم يكن عبثاً، فقد أعتاد المخرج حين يؤثث المكان المسرحي أن يجعل كل شيء لغاية معروفة في الحياة العامة وفي حياة شخصياته، فلكل عنصر وظيفته في العرض مع ملاحظة أن الممثل تعامل مع بعض الأدوات بشكل يحولها به من غرضها الواقعي إلى رمزي، فسلة النفايات في عرض لعنة بيضاء لن توضع فيها النفايات كما في الواقع، وإنما استعملها الممثلون للدلالة على نفايات معنوية تثقل اللصوص من أهل المدينة كأنها الحصى، وكذلك صنع المخرج حواجز متحركة يمكن تجميعها أو إعادة توزيعها على مساحة العرض لتعطي بتلك التشكيلات دلالات مختلفة، فكان منها قفص يحجز الشخصيات وهو سجن يكبل الفاسدين نفسياً قبل أن يكون مادياً، وشكلت أيضاً سياجاً أحتجز فيه المثقف للدلالة على وجود ما يمنع اللصوص من سماع خطاباته، وفي موقف آخر كان حطباً جمع ليحرق به المثقف، وفي كل تلك التحولات الدلالية لم تفقد الحواجز أهميتها والغرض المتوقع من وجودها، وهو سمة تشير إلى الاختزال في العناصر بقدر الحاجة وهو أسلوب المخرج د. محمد حسين حبيب السائر عليه دون غلو أو تشتيت للانتباه، فقضية العرض هي ما يراد إيصالها قبل كل شيء، ويؤكد ذلك أيضاً أسلوب المخرج بارتكازه على الكلمة المنطوقة لبيان المطلب وكشف الحقيقة، ولا يغير من تلك الركيزة اللفظية إضافة رقص جسدي إلى العرض إنما كان الأساس والغالب هو الكلمة الدالة، ويضاف لذلك بقية عناصر العرض من أزياء وإضاءة وإكسسوار وموسيقى ومؤثرات والتي تعاضدت جميعها لصنع العرض.
د. سعد عزيز عبد الصاحب
التكييف الجمالي للفضاء الاجتماعي في مسرحية لعنة بيضاء
في استهداف ظواهر الدستوبيا (المدينة الفاسدة) يحاول المخرج المجتهد (محمد حسين حبيب) ان يخلق له انموذجا ابداعيا ونسقا جماليا يتكأ على علل ومشكلات اجتماعية عضوية تمور في جسد المجتمع العراقي محاولا نقدها والتعريض بها ، فبعد مسرحية (الراديو) يقدم مسرحية (لعنة بيضاء) التي مثلتها فرقة نقابة الفنانين فرع بابل وهي من تأليف (احمد عباس) عن اقتباسه ومسرحته لقصة قصيرة للكاتب الايطالي (ايتاليو كالفينو) بعنوان (شاة سوداء) عرضت المسرحية على قاعة الشهيد حمزة نوري للالعاب الرياضية المغلقة في مدينة الحلة وبمعالجة درامية تحكي قصة زائر جديد يسكن احد بيوت المدينة ويخلق فيها شكلا جديدا من العلاقات التي يسودها الصدق والفضيلة بما يتعارض مع سلوك اهل المدينة القائم على الفساد (السرقة) والتزوير والحيلة في تعاملاتهم اليومية ، فيصبح صاحب الدار (الرجل الامين) النغمة النشاز الوحيدة التي تعزف في فضاء المدينة الفاسدة(الدستوبي ) بكل علاقاته وأجوائه السلبية ، يرفض الساكن الجديد تطبيق وصايا المختار ورجل النظام التي تقضي بالتفاعل مع الانظمة المقررة سلفا في المدينة، تلك الانظمة والسياقات المبنية على الفساد بكل مفاصلها الحياتية، لدى الطبيب في عيادته ،والاستاذ الجامعي في جامعته ،والبائع في سوقه وغيرهم حيث تفشي الرشوة والسرقة ، فالكل يسرق بعضه بعضا والجميع يتحولون الى زوار ليليين ينهون جرائمهم عند صياح الديك بعد أن يتبادلوا فعل السرقة ، يختل ويهتز هذا التوازن الاجتماعي والطبقي بمجيئ الرجل الامين الى المدينة الذي لا يغادر بيته وكتابه لذا فبيته لا ُيسرق ، هو يُجبر على ممارسة السرقة ويوضع امام رهان خاسر بالنسبة اليه : إما ممارسة السرقة والإذعان للنظام أو الموت فيقرر مغادرة بيته والوقوف على الجسر شاخصا وشاهدا على هذه المهزلة البشرية، فيصدر الامر بحرقه هو وكتبه ،إلا أن فعل الحرق يصيب جميع افراد المدينة، فالجميع آكل للحرام ، حاول المخرج (حبيب) ان ينطلق في قراءته الإخراجية من مفردة البيت / الهيكل وتشظيتها .. البيت الذي تُرى احشاءه البيت المخترق أخلاقيا وقيميا ، وكل قطعة هيكل حديدي تسكن داخلها سلة مهملات فيها حصى صغير ، جاءت المفردة المركزية (الهيكل) غزيرة في طاقتها الدلالية والايحائية وشكلت تشكيلات جمالية مع الممثلين عمقت من الأبعاد الدلالية والتأويلية للعرض ،وانتجت معاني عديدة ساهمت في استنطاق ثيم النص الدرامي وأعطت انسيابية للايقاع البصري الذي تدفق بتوليدات هذه المفردة ودلالاتها بمدلولات (الجنابر) في السوق و(السونار) في عيادة الطبيب والتوابيت المحمولة وقضبان السجن اضافة لمدلولها المركزي (البيت) ولا يمكن فصل العلاقة بين الفضاء البصري للمكان والتشكيلات السينوغرافية للمفردات إذ أن اختيار الفضاء (قاعة الالعاب الرياضية)خارج العلبة الايطالية وممكناتها المحدودة على مسارح محافظة بابل اعطى عمقا للمجال اللعبي مما ولدَ بعدا بصريا ثالثا للصورة الجمالية للعرض انتهى بالسلم الخلفي الممثل للجسر ، وشاشة الداتا شو التي وظفت امكانياتها التقنية بطريقة مبتكرة اذ استعمل المخرج البث الحي للمسرحية على الشاشة الخلفية مما اعطى دلالة الهنا والان وأن ما يبثه العرض من رسائل هي رسائل ساخنة ويومية لا يمكن تأجيلها الهدف منها ارشادي توعوي في أن لا نركن للسرقة والفساد بين بعضنا ، إضافة لمشهد الحريق في نهاية المسرحية بالفعل كان مشهدا جليلا ومعبرا في محتواه الجمالي والفكري ذكرني شخصيا بجماليات مسرح قاسم محمد الصوفية في ابي حيان التوحيدي وحرق كتبه ، ساهمت المفردة الرئيسة (الهيكل) في انشاء تنوع في الايقاعين السمعي والبصري اضافة الى الحصى وصوت سقوطه على الارض وصوت المفاتيح ناهيك عن روعة الاغاني الصوفية والتي هي من مصادر ايرانية على ما يبدو ، احتكم العرض لهارموني بصري وايقاعي ووحدة جلية في الشكل من خلال الازياء والوانها بثنائية الابيض والاسود وتجلياتها في ملابس الممثلين الرسمية كأنهم في حفل فني او حفلة موسيقية يلبسون أزياء موحدة مما اعطى دلالة أن السلطة الرسمية مساهمة في الفساد ومحتفلة به ، ولتميز المختار والرجل الامين ارتديا ملابس تقليدية ، اسهمت الحركات (الكريوغرافية) والرقصات المتناسقة في اضفاء وتأكيد هذه الوحدة ،على الرغم من اقحام الرقصة الافتتاحية بحركات (رياضية) لا علاقة لها بمضمون العرض في حين جاءت الرقصة الثانية مع سلة المهملات صريحة في معناها المنسجم مع ثيمة العرض ، اما على صعيد الأداء التمثيلي فيمكن ان نفرد جنبة طويلة في تفسيره وشرحه إلا أن مقتضى الحال يمنعنا من ذلك إذ كان اداء الممثل الرائد (احمد عباس) كما عهدناه في تشخيص (الرجل الامين) لا سيما وان الشخصية هي تجسيد حي لفواعل (احمد عباس) وعصاميته وصدقه في الحياة كما عرفناه متبرئا مع ذاته وما يلقي من الفاظ واضحة ومسموعة خالية من الاخطاء النحوية متبنيا حقيقيا لمثل الصدق والخير والعدل ، ولا يقل اداء الممثل (علي حسن علوان) لشخصية رجل النظام مسفرا عن قوة جهورية لافتة في صوته ووضوح الفاظه وتحولاته الجسدية المحسوبة بين الغلظة واللين ، وكذلك الممثل (علي التويجري ) الذي كان حلقة الوصل بين الرجل الامين والجوقة المسرحية في جودة تبنيه لفكرة الشر المستحكم في الضمير وقدرته على تغذيتها بتعابير وجهه المعبرة وضبطه لايقاع شخصيته ، وقد لفت انتباهي بشدة أداء الممثلين (فقدان طاهر)و(ظفار فلاح) في Hدائهما لشخصيتي الطبيب والمشتري في ضوء استرخائهما وانغمارهما التقمصي اللافت مع ضبط (الكاركتر) الادائي المصنوع لهما و اضفاء اللون الكوميدي الساخر على ادائهما وجاء اداء الممثل (علاء القرغولي) باستقامته المعبرة ومشيته الوئيدة مثالا وتشخيصا دقيقا للقناع الذي يلبسه الاكاديمي المرتشي والممثل (مخلد الجبوري) بدور المختار كان قويا جريئا في حضوره على خشبة المسرح وجسد فساد المجتمع من خلال فساد مرؤوسيه ، وليس بعيدا عن الابداع جاءت الجوقة الكريوغرافية من الراقصين الشباب بانسجامها الايقاعي السمعي والبصري المتماهي مع الايقاع الدرامي للعرض .

د. ميثم فاضل عبد الأمير
مسرحية (لعنة بيضاء) فصام الذات وغياب الهوية
مآل السؤال الوجودي المخيف الذي طرحه المخرج: (ماذا تصْنَع وأنتَ تكتشف أنْ لا شيء سوى دخان الفضيلة ؟) في مسرحية (لعنة بيضاء) تأليف أحمد عباس وإخراج د. محمد حسين حبيب .
يتسلل العرض المسرحي إلى حُزمة من القيم المضادة التي تنهش بجسد المجتمع عبر سرد تشريحي للنظام المديني الشائه: (السطو ، الكذب ، اللا دين) , والمُقنَّن داخل حقل ثقافي هجين شديد الصرامة وجد المخرج الأمكنة المُغايِرَة فضاءً جمالياً معادلاً لها .
فكرة النص اقتباس من قصة قصيرة تحمل عنوان (شاة سوداء) للكاتب الايطالي (ايتاليو كالفينو) اشتغل المؤلف على مسرحتها ومزْج ثيمتها بالأفكار الفلسفية التي تطلَّع إليها الفارابي في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) مستخرجاً منها مدينته (الضالة) السمجة الأخلاق والأعراف والعقائد ، ليشكل بنية الحدث الدرامي الذي يبدأ وقْعه في مساء موحش مضطرب يسود أجواء تلك المدينة التي يغزوها السُرَّاق والمحتالون ، فالجميع يسرق بيوت الجميع وفق نظام مُشَرْعَن ومتفق عليه في الذاكرة الجمعية ويعد الخروج عن النظام إخلالاً في اللا توازن الذي يقضي أن يكون الجميع أغنياء بفعل السرقة ، بعكس ما جُبِلَ عليه الكون القائم على مَسْرد من الثنائيات المتقابلة حيث الخير والشر، والجميل والقبيح ، والحياة والموت ، والفقير والغني ، التي ينتظم في إطارها توازن العالم ، وتسود في أجوائها العدالة السماوية ، ولأنَّ (اللانظام) هو شِرْعة صنعتها السلطة المادية في هذه المدينة ، فقد وجد المؤلف معادلاً فيزيقياً (زائفاً) للسلطة السماوية ممثلاً بشخصيات من قبيل (المختار، رجل النظام) ، وهم معلِّمون سفسطائيون (يعتقدون في الله عز وجل وفي العقل النيِّر آراء فاسدة لا يصلح عليها حتى وإنْ أُخِذَت على أنها تمثيلات وتخيلات لها) ، وتمثل هذه الثيمة مدار الحدث الدرامي والمنطلق الأساس لظهور الاتجاه المعاكس ممَثلَّاً بشخصية (الغريب) الساكن الجديد الذي يقف على تخوم المدينة مفكراً متأملاً كيف يمكن أنْ يسكن في بيوت لم تتطهر من الدنس وهو مُلْزَم في الوقت ذاته أنْ يصير مثلهم يَسرق ويُسرَق كما الجميع ، ولأنه لا يشبه إلا ذاته يعلن تمرده على سكان المدينة ويقرر تخطي الجسر والعبور إلى الضفة الأخرى حيث الخلاص ، ولكن ثمن العبور لم يكن زهيداً إذ يُصار إلى إصدار أمر بحرقه ليختفي عنوانه من الوجود وتبقى المدينة ترعى أدرانها .
يحيل النص المسرحي إلى تصور سياقي للمفاهيم القارة في العالم الخارجي ولا سيما انفصام الذات عن التسلسل الزمني لجماليات الأخلاق وتعارضها مع الهوية الثقافية ، ومن ثمَّ غياب الهوية ، وقد شكَّل العرض برُمَّته علامة توافقية متماهية مع المرجع المفاهيمي للنص فكانت الرؤية الإخراجية ذات مزاج حاد انعطف مع قُبْحيات الواقع الذي تشوبه فرضية المدينة بقسوة لا فكاك منها ، فلم يعد مسرح العلبة التصور المثالي لإنشاء بيئة جمالية متوائمة مع فلسفة المدينة (الضالة) التي تشح فيها الطمأنينة وتزهو نشوة الفصام الديني والأخلاقي ، فتأتي المفارقة وكسر أفق التوقع في المغايرة المكانية (القاعة الرياضية) المسوَّرة باللا نظام معادلاً جمالياً لمادة العرض ، وقد احتشدت فيها سينوغرافيا غير ساكنة: (هياكل البيوت الملتحمة مع الممثلين ودِلَاء النقود) تميزت بكثافتها البصرية وعمقها الدال ، وهي علامة اخبارية عن عمارة المدينة المتشابهة في الشكل والمضمون وعلامة في الوقت ذاته تشير إلى وحدة الرأي وتطابق الأفكار الضالة التي تغذى عليها سكان المدينة ، ولعل وحدة اللون في الأزياء تشي بهذه الخاصية الجمالية ، فالجميع يرتدون البذلات السوداء إذ لا فرق بين كبير وصغير طالما أنَّ العقول فاسدة .
أما الأداء التمثيلي فقد غلب عليه الطابع الكوميدي الساخر والنغمة التراجيدية الحزينة الناقدة للواقع الاجتماعي الفج والذوات المُقنَّعة ، وقد أبدع الممثل (مخلد جايد) دور المختار الذي تزيَّا بزي الدين وتخلَّق بدخان الفضيلة ، والطبيب المكيافلي الممثل (فقدان طاهر) الذي الْتَحَف المهنة لباساً وتقوَّت على فتات المعرفة الضالة بدعوى التكتل على الذات لا على الله ، والممثل الجدلي (علي الطائي) مُشرِّع النظام واللانظام في الوقت ذاته ، والسارق المتمرس صانع الفكاهة السوداء الممثل (علي عدنان) الذي يبذر عُقدة الحدث الدرامي بتأليب سكَّان المدينة على (الغريب) بأسلوب فني جمالي متناغم في الصوت والحركة ، والرجل الأعمى ذو القناع النزق الذي يلعب دوره (ظفار فلاح) بانسيابية عالية وروح فكاهية دالة .

لم يفلت الايقاع من مرمى العرض إذ ظل الممثل (أحمد عباس) ماسكاً بزمامه رغم التقشف في الحركة وسكون الأداء الذي تفرضه الشخصية المناطة به ولا سيما مشهد حرق الغريب الذي تسوده الفوضى العارمة بإيقاع (سيمتري) منضبط متوائم مع لوحة اللَّهَب التي بثَّها (الداتا شو) ، وهي رجْعٌ تاريخيٌ للأحداث الكبرى التي شهدها الأنبياء ورثاءٌ للتجليات الإلهية في طبيعتهم التكوينية: (محرقة النبي ابراهيم ، ذبح يوحنا المعمدان ، صلب المسيح ، مجزرة كربلاء) . وقد أضافت مشاهد (الكيروكراف) بعداً جمالياً ودلالياً لثيمة العرض ، وأحسب أنَّ هذه التجربة الابداعية إنصافٌ لفن الرقص الايمائي لامتلاكه معجماً حركياً زاخراً بلغة الجسد وشيفراتها الدلالية التي يتعذر تجاوزها في عملية التلقي ،مسرحية (لعنة بيضاء) مُساءلة قائمة لا يفلت من عقابها صُنَّاع دخان الفضيلة

الخلاصة
وهكذا اجتمعت أراء النقاد المحللة بتوازن عال راعي تناول كافة عناصر العرض المسرحي لعنة بيضاء ، وقد اتفقوا على جودة العرض التي فرضت نفسها بعد تحليلها نقديا .

06b0cc2cde35.jpg
6b57cae547cd.jpg
af0fe91d948c.jpg
b17189ff10b8.jpg
b9ed9d99d900.jpg
c6cea1720366.jpg
ca2d04f4cea0.jpg
dc584d396d9b.jpg