دكتور علاء الحمزاوى يكتب : وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْــمِ وَبَاطِنَهُ
![دكتور علاء الحمزاوى](https://www.alguardian.com/img/25/02/07/91770.jpg)
![](https://www.alguardian.com/ix/GfX/logo.png)
ــ وردت هذه الجملة الكريمة في قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ. وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ}، المضلون المعتدون هم المشركون؛ لأنهم حرَّموا ما أحلَّ الله وأحلُّوا ما حرَّم الله من اللحوم والأطعمة، ثم توجه الخطاب للمسلمين قائلا: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ)، {ذَرُوا} فعل أمر بمعنى (اتركوا)، الماضي منه (وَذَرَ) ولم تستعمله العرب، والمضارع (يَـذَرُ) ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هَٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} أي يتركون، وقد أمرنا القرآن بترك ستة أشياء: تـرك الربــا؛ قال تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، وتـرك اللعب واللهو بدين الله، قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، وتـرك التحريف في أسماء الله؛ قال تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وتـرك البيع وقت الصلاة؛ قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ}، وترك الافتراء على الله، قال تعالى: (فذرهم وما يفترون)، وتـرك الإثـــم؛ قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْــمِ وَبَاطِنَهُ}.
ــ و{الإثْــم} في اللغة هو البطء والتأخُّر، تقول العرب: ناقة آثمة أي بطيئة في المشي متأخرة، ثم أُطلِق الإثـم على المعصية؛ لأن العاصي بطيء متأخر بإرادته عن الطاعة والتوبة وفعل الخير، فهو آثـــم أي مذنب، قال الله للنبي في اليهود: {انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا}، فالكذب على الله معصية كبيرة فهو إثم مبين، وأعظمُ الإثـم الشرك، قال تعالى في وصف المحسنين: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}، فاللمم صغائر الذنوب، وكبائر الإثم كل ذنب خُتِم بالنار، والفواحش كل ذنب فيه حَــدٌّ، ويُطلَق الإثــم على إضمار السوء والمعصية في القلب، ففي الحديث "والإثــمُ مَا حَاكَ في النَّفسِ وتردَّدَ في الصَّدرِ"، أي لم ينشرح له الصدر، وحصل في القلب منه شك وخوف أن يكون ذنبا.
ــ وبلغ ذكر الإثـم في القرآن ثلاثا وثلاثين مـرة حمل فيها دلالات الذنب والمعصية والظلم والتجاوز والحرج والتفريط والتهاون، من ذلك قوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي لا حرج عليه، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} أي أنه يظهر التباطؤ والتأخّر عن التقوى حفظا للعـزة الموهومة فهو آثـــم، وقال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} أي نمهّلهم ونطوّل عيشهم ليتمادوا في الشر ويزدادوا في التأخّر عن الخير فهم آثمون، وقال تعالى: {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} أي بالتفريط في العمل والتعدي على الحق والعصيان للرسول.
ــ والمراد بـ{ظَاهِر الْإِثْمِ وَبَاطِنه} كل ما يوجب الإثم من فعل أو قول أو عـزم، واختلف العلماء فيهما ما بين العموم والخصوص، فقيل: الظاهر أفعال الجوارح من المعاصي كالسرقة والكذب والزنى والباطن أفعال القلب كالكبر والحسد والحقد، أو هما الجهر بالمعصية والإسرار بها، أو الظاهر ما يفعله المرء من معاصٍ والباطن ما ينوي فعله، أو ظاهر الإثـم الزواج من المحرمات كالأمهات والأخوات، قال تعالى: {ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ}، وباطن الإثـم الزنى، أو ظاهر الإثم الزنى العلني الذي كان ولا يزال سائدا في بعض المجتمعات، وباطنه الزنى السري، وكان الكفار يرون أن الزنى سرا حلال، فقال الله للمؤمنين: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، والأرجح أن ظاهر الإثــم جميع المعاصي العلنية وباطنه جميع المعاصي الخفية؛ لأن الآية مطلقة، والمطلق لا يُقيَّد إلا بقرينة.
ــ ثُمَّ تَوَعَّدَ الله الكاسبين لِلإثـم بالعقاب، فقال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ}، والجملة إنذار للمؤمنين ألا يقعوا فيه، فالمعنى: اتركوا الإثم ظاهره وباطنه؛ فالآثـمون سيعاقبون يوم القيامة على إثمهم، وعبَّر بالكسب بدلا من الاكتساب للدلالة على أن الإثـم سهل عندهم ارتكابُه لاعتيادهم عليه، وظاهر النص يدل على وجوب عقاب الآثــم، لكن العلماء أجمعوا على أنه إذا تاب الآثــم توبة نصوحا لا يُعاقَب على إثمه؛ استنادا إلى قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ}، بل قد يعفو الله عن المذنب فيترك عقابه؛ لقوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ}.