حسين السمنودى يكتب طوفان بلا نهاية.. الأمة العربية بين الفرقة والطمع وصراع البقاء


في زمنٍ أصبح فيه البقاء للأقوى، وجدت الأمة العربية نفسها تغرق في طوفان لا نهاية له، تائهة بين أمواجٍ متلاطمة من الصراعات والانقسامات، بينما يقف الأعداء يتفرجون، بل ويشاركون في إدارة هذا الطوفان لضمان ألا تصل هذه الأمة إلى شاطئ الأمان.
لقد أصبح الواقع العربي أكثر تعقيدًا مما كان عليه في أي وقتٍ مضى، فبالرغم من امتلاك بعض الدول العربية لثرواتٍ طائلة، إلا أن هذه الثروات لم تكن مصدر قوة، بل تحولت إلى سببٍ في طمع الأعداء وتكالبهم علينا. أما الدول العربية التي لا تمتلك ثروات ضخمة، فقد وجدت نفسها في مرمى نيران المؤامرات والتدخلات الخارجية، حتى أضحت ساحة صراع لأطراف إقليمية ودولية، تتصارع على النفوذ وتبحث عن موطئ قدم، ولو كان ذلك على حساب دماء الشعوب العربية.
الفرقة العربية.. سلاح الأعداء القاتل
لم تكن الأمة العربية ضعيفة عبر التاريخ، بل على العكس، كانت قوةً مهابة، تمتلك النفوذ، وتحكم أجزاءً واسعةً من العالم. ولكن عندما بدأت بذور الفرقة تُزرع بين أرجائها، أصبح من السهل على الأعداء السيطرة على مقدراتها، مستغلين الخلافات الداخلية، والصراعات السياسية، والنزاعات الطائفية، لزرع مزيد من الانقسامات، حتى أصبح الأخ يقف في وجه أخيه، وكل دولة تغلق أبوابها على نفسها، متناسيةً أن المصير مشترك، وأن السقوط لن يكون انتقائيًا، بل سيشمل الجميع.
لقد رأينا كيف استطاع العدو تقسيم الأمة إلى دويلات متناحرة، كيف أصبح لكل دولة حساباتها الخاصة، وسياساتها التي تتجاهل المصالح العربية الكبرى، وكيف تحولت بعض الحكومات إلى أدواتٍ بيد قوى خارجية، تستخدمها لضرب جيرانها العرب، بدلًا من أن تكون درعًا لحماية الأمة من المخاطر الخارجية.
أموال العرب.. نعمة أم نقمة؟
عندما نتحدث عن الأمة العربية، فإننا نتحدث عن واحدة من أغنى مناطق العالم بالثروات الطبيعية، فالنفط، والغاز، والمعادن، والموارد الزراعية، كلها متوفرة بوفرة غير عادية. ولكن هذه الثروات، بدلاً من أن تكون عامل قوة وتقدم، تحولت إلى مصدر طمعٍ للأعداء، وسبب في اشتعال الحروب والمؤامرات.
لقد رأينا كيف كانت بعض الدول العربية هدفًا للاجتياح العسكري، وكيف تم فرض العقوبات الاقتصادية عليها، وكيف تُستخدم سياسات الضغط والابتزاز لانتزاع أكبر قدر ممكن من أموالها. وبينما يتم استنزاف هذه الثروات، تعيش شعوب هذه الدول في أوضاع اقتصادية سيئة، تعاني من البطالة، وارتفاع الأسعار، وانخفاض مستوى المعيشة، مما يجعلها بيئة خصبة لظهور الأزمات الداخلية، التي يتم استغلالها لإضعاف هذه الدول أكثر فأكثر.
أما الدول العربية الأخرى التي لم تكن في مرمى الحروب المباشرة، فقد تورطت في سباق تسلح محموم، حيث يتم شراء أسلحة بمليارات الدولارات، ليس لحماية الأوطان من الأعداء الحقيقيين، ولكن لخلق توازنات داخلية، أو لضمان ولاء بعض القوى الدولية، التي لا ترى في العرب سوى زبائن دائمين لصناعاتها العسكرية.
الحروب بالوكالة.. العرب وقود الصراع العالمي
لم يعد العدو بحاجة إلى خوض معاركه بنفسه، فقد وجد في المنطقة العربية بيئةً مثاليةً لحروبه بالوكالة، حيث يتم إشعال الصراعات، وتأجيج الفتن، ودعم المليشيات المسلحة، لضمان بقاء حالة عدم الاستقرار، التي تمنع أي دولة عربية من أن تنهض، أو تفكر في بناء مشروع قومي موحد.
لقد رأينا كيف تحولت بعض الدول العربية إلى ساحات حربٍ مفتوحة، وكيف تم تمزيق أوطانٍ بأكملها بحجة الديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما الهدف الحقيقي كان إسقاط هذه الدول، وتحويلها إلى كيانات ضعيفة، تعتمد بشكلٍ كامل على المساعدات الخارجية.
أما الإعلام، فقد لعب دوره في تغذية هذه الحروب، عبر نشر الدعاية، وتزييف الحقائق، وخلق العداء بين الشعوب، حتى أصبح العربي ينظر إلى أخيه العربي كعدو، بينما يغض الطرف عن العدو الحقيقي، الذي يقف وراء كل هذه المآسي.
القضية الفلسطينية.. نموذج حي على التخاذل العربي
إذا كان هناك مثال واضح على تراجع الدور العربي، فهو القضية الفلسطينية، التي كانت يومًا ما القضية المركزية للأمة، لكنها أصبحت مجرد ملفٍ يتم تحريكه حسب المصالح السياسية.
لقد رأينا كيف تم التخلي عن الفلسطينيين، وكيف أصبحت بعض الدول العربية تسعى للتطبيع مع العدو، متجاهلةً أن هذا العدو لا يعترف إلا بمنطق القوة، وأن كل تنازل يتم تقديمه له، يقابله مزيدٌ من التوسع الاستيطاني، ومزيدٌ من القمع والقتل والتشريد للفلسطينيين.
إن ما يحدث اليوم في غزة والضفة الغربية، وما يعيشه الفلسطينيون من مجازر وتنكيل، لم يكن ليحدث لولا التواطؤ الدولي، والصمت العربي المخزي، الذي جعل العدو يتمادى في جرائمه، دون أن يجد من يوقفه عند حده.
هل هناك أمل؟
وسط هذا الطوفان المدمر، يتساءل الكثيرون: هل هناك أمل في أن تستعيد الأمة العربية مجدها؟ هل يمكن لهذه الشعوب أن تتوحد يومًا ما، وأن تدرك أن مصيرها واحد، وأن أمنها لا يمكن أن يكون إلا مشتركًا؟
الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة. فالتاريخ أثبت أن الأمم قد تمرض، لكنها لا تموت، وأنه مهما طال الزمن، فإن لحظات الوعي والاستفاقة قد تأتي في أي وقت.
إن الحل يبدأ من وعي الشعوب، من إدراك أن العدو الحقيقي ليس في الداخل، وإنما في الخارج، وأن كل الحروب والانقسامات التي نعيشها، ليست سوى أدوات لإبقاء هذه الأمة ضعيفة، خاضعة، مستنزفة، غير قادرة على النهوض.
كما أن على القادة العرب أن يدركوا أن مصالحهم الفردية لن تدوم، وأن التاريخ لن يرحم من يخذل أمته، أو يتآمر ضد شعبه، وأن القوة لا تأتي من الارتهان للأجنبي، بل من بناء إرادة عربية مستقلة، قائمة على الوحدة، والتعاون، والاعتماد على الذات.
وفي نهاية المطاف لابد وإن نعرف بأن الطوفان العربي مستمر، والمخاطر تحيط بنا من كل جانب، لكن إرادة الشعوب لا يمكن أن تُكسر، والتاريخ مليء بأمثلة على أممٍ مرت بظروفٍ أشد قسوة، لكنها استطاعت أن تنهض، عندما قررت أن تواجه الواقع، بدلًا من الاستسلام له.
ربما يكون الحل بعيدًا اليوم، لكن الخطوة الأولى تبدأ من الاعتراف بالمشكلة، ومن ثم العمل على معالجتها، فإما أن ننهض معًا، أو نبقى غارقين في هذا الطوفان، حتى لا يبقى من الأمة العربية إلا أطلال، تروي حكاية مجدٍ كان يومًا، لكنه لم يعد موجودًا.