الإثنين 24 فبراير 2025 03:55 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د.عماد هادي الخفاجي يكتب: المفارقة الرقابية بين الصمت والسلطة الكلامية

د.عماد هادي الخفاجي
د.عماد هادي الخفاجي

في عالم تتراكم فيه مظاهر القبح بأشكالها المختلفة، ويغرق فضاؤه المعلوماتي في دوامة من التشويه والتضليل، يبرز الصمت الذي تمارسه الجهات الرقابية كظاهرة تستدعي التأمل. هذا الصمت، الذي قد يُنظر إليه في ظاهره على أنه مجرد غياب للدور الرقابي، يتحول إلى دلالة أعمق تتجاوز الحياد أو التقاعس، ليصبح، paradoxically، نقيضا لكل هذا الضجيج المحيط، وكأنه الملاذ الأخير للنقاء والموضوعية، أو حتى الجمال بمفهومه الأكثر تجريدا، فحين تتراجع الرقابة الرسمية عن أداء دورها فإنها لا تترك فراغا محايدا، بل تفتح المجال لسلطة بديلة تنشأ في قلب المشهد، سلطة لا تعتمد على القوانين والأنظمة بقدر ما ترتكز على التأثير الجماهيري والانتشار السريع.

إن الجمهور، حين يُترك بلا جهة تنظم إيقاع خطابه، لا يظل صامتا، بل يتحول إلى قوة كلامية فاعلة تتولى إعادة تشكيل المفاهيم وفرض أجنداتها الخاصة على النقاش العام. وفي هذا السياق، تصبح الكلمة ذات سلطة تتجاوز سلطة المؤسسات، إذ إنها تمتلك القدرة على الانتشار بفضل الوسائط الرقمية التي جعلت من كل فرد منبرا، ومن كل رأي موقفا عاما قادرا على تحريك الأحداث والتأثير في مجرى الأمور. هذه الديناميكية الجديدة تخلق توازنا غير مستقر بين الصمت المؤسسي والضجيج الشعبي، حيث تتولد أسئلة جوهرية حول طبيعة الرقابة، وحدود السلطة، والمسؤولية عن تشكيل الوعي الجماعي في زمن باتت فيه الحقيقة نفسها محل تفاوض مستمر.

إن غياب الرقابة لا يعني بالضرورة تحررا من القيود، بل قد يؤدي إلى ظهور أنماط جديدة من الضبط والسيطرة، تمارسها الجماهير بآليات مختلفة، قد تكون أكثر حدة وأقل رحمة من تلك التي تمارسها السلطات الرسمية. فالتفاعل الجماهيري، وإن كان في ظاهره ديمقراطيا، قد ينزلق إلى مساحات من الإقصاء والمبالغة في المحاسبة، مما يحوّل السلطة الكلامية إلى شكل من أشكال الرقابة غير المرئية، التي لا تعتمد على نصوص قانونية بقدر ما تقوم على ضغط الرأي العام وهيمنة التصورات الجماعية. وهكذا، فإن المفارقة تظل قائمة بين الصمت الذي يبدو حياديا لكنه ينطوي على دلالات سلطوية غير مباشرة، وبين الضجيج الذي يدعي التحرر لكنه قد يتحول إلى أداة ضبط اجتماعي أكثر صرامة، مما يطرح إشكاليات أعمق حول دور الكلمة وحدود تأثيرها، في عالم لم يعد فيه الصوت مجرد تعبير، بل ممارسة فعلية للسلطة.

د.عماد هادي الخفاجي المفارقة الرقابية بين الصمت والسلطة الكلامية