الإثنين 24 فبراير 2025 04:28 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : رمضان.. تجارة رابحة مع الله أم موسم اللهو والتسلية؟

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

حين يُذكر رمضان، تتبادر إلى الأذهان صورة الشهر المبارك الذي تنتظره القلوب بفارغ الصبر، شهر تصفد فيه الشياطين، وتفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، شهر تغمره الرحمة وتتنزل فيه البركات. قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة: 183). هو شهر تتضاعف فيه الحسنات، وتتاح فيه فرص لا تعوض لنيل المغفرة، فمن أدركه ولم يغتنمه فقد خسر خسرانًا مبينًا.

لكن المتأمل في واقع الأمة اليوم يجد أن هذا الشهر، الذي يفترض أن يكون موسمًا للطاعة والقرب من الله، قد تحول إلى موسم مختلف تمامًا، حيث تزدحم الشاشات بمسلسلات وبرامج ترفيهية أُعدت خصيصًا لجذب الناس وصرفهم عن أجواء الإيمان والخشوع. أصبح رمضان عند البعض مرادفًا للدراما والكوميديا والبرامج الترفيهية أكثر منه موسمًا للعبادة. وكأن هناك من يسعى بكل قوة إلى تحويل القلوب والعقول عن الغاية الحقيقية لهذا الشهر الفضيل.

الأمر ليس مجرد صدفة، بل هو مخطط له بعناية. فكيف يمكن أن يكون رمضان، وهو الشهر الذي فرض الله فيه الصيام ليزكي النفوس ويرتقي بها، هو نفسه الشهر الذي تتنافس فيه القنوات الفضائية والمعلنين على إغراق المشاهد بساعات طويلة من المحتوى المشتت؟ ولماذا يُكرس الإنتاج الدرامي بأضخم ميزانياته ليُعرض خلال هذا الشهر تحديدًا؟ ولماذا تتجهز الإعلانات والبرامج الساخرة والعروض الترفيهية لتملأ ليالي رمضان، التي كان ينبغي أن تكون ليالي الذكر والقيام؟

من الواضح أن هناك إدراكًا عميقًا بأن رمضان هو فرصة عظيمة للمسلم ليجدد إيمانه، وأن كل لحظة فيه يمكن أن تكون سببًا في مغفرة ذنوبه، ولذلك فإن ملء وقته باللهو والعبث هو أحد أخطر الوسائل التي تُستخدم لإبعاد الناس عن روحانية هذا الشهر. إن الشيطان، وإن كان يُصفد في رمضان، فقد ترك من ينوب عنه من البشر ليكملوا مهمته. قال النبي ﷺ: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وسلسلت الشياطين" (متفق عليه). ولكن ماذا عن شياطين الإنس الذين يسعون جاهدين لتعويض غياب إبليس عبر وسائل الإغواء المختلفة؟

لقد صار من المعتاد أن نرى كيف يتم الترويج لمسلسلات وبرامج رمضان قبل حلول الشهر بأسابيع، وكيف تتحول الدعاية إلى سباق شرس لجذب أكبر عدد من المشاهدين. يتفنن المنتجون في تقديم قصص مثيرة، وأحداث مشوقة، ومحتوى لا يخلو من التلاعب بالمشاعر، وكأنهم يدركون أن الإنسان، في لحظات ضعفه، قد ينجرف بسهولة إلى التسلية، خاصة إذا قُدمت له في قالب جذاب. وما إن يبدأ الشهر حتى يجد المسلم نفسه محاطًا بكم هائل من الإغراءات التي تسرق وقته وتُضعف صلته بالله، حتى ينقضي رمضان وهو لا يشعر إلا بالخسارة.

ورغم أن الصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو تدريب للنفس على التحكم في الشهوات وكبح الرغبات، إلا أن ما يُعرض على الشاشات يكسر هذا المعنى تمامًا، فيتحول الليل إلى وقت للسهر أمام المسلسلات والبرامج الترفيهية، وينسى الكثيرون صلاة التراويح وقيام الليل، ويستيقظ البعض متأخرًا وقد ضاع منه وقت السحر، وهو الوقت الذي أخبر النبي ﷺ أنه من أوقات استجابة الدعاء، حين قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" (متفق عليه). فكيف يُضيَّع هذا الوقت الثمين في مشاهدة برامج لا تنفع؟

إن إدراك هذه المؤامرة الكبرى ضد روحانية رمضان هو الخطوة الأولى لمواجهتها. فالمؤمن الفطن هو من يعي خطورة هذه الملهيات، ويقرر أن يجعل من رمضان موسمًا للطاعة، لا موسمًا للغفلة. وما أعظم قول الله تعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين" (آل عمران: 133)، فكيف يسارع المرء إلى المغفرة وهو مشغول باللهو والعبث؟ وكيف يرجو القرب من الله وهو لا يجد وقتًا لذكره؟

الحل بيد كل فرد، فالمسلم هو من يحدد كيف سيقضي وقته في رمضان. إما أن يجعله تجارة رابحة مع الله، حيث تكثر أعمال البر والذكر، وإما أن يفرط فيه فيندم يوم لا ينفع الندم. وقد قال النبي ﷺ: "رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يُغفر له" (الترمذي، وصححه الألباني). فليكن رمضان فرصة جديدة للعودة إلى الله، لا موسمًا آخر للغفلة والانشغال بما لا ينفع.