د. فــاروق دربالــة يكتب عن الإبداع الموازي : مقتطف من ( الرقص على إيقاع الصورة )


على كل من يتوقع المصطلحات والاقتباسات والمراجع والإحالات ، والتنظير الصارم والمستوفز ، الذي أنهكنا بتقسيماته ، ونال من ذائقتنا بتهويماته بعيدًا عن
النصوص والسفر فيها ومعها باستمتاع وتدَبُّر، من يتوقع ذلك فلا يناسبه ما أذهب إليه هنا ، وليلتمس ما يريد في الأبحاث والمقالات والمؤلفات - وهي كثيرة وفيرة - ولى منها نصيب - وهي لا تخلو من صرامة العلم ومصطلحاته ، والبحث وإجراءاته ، وتنبني على ما قبلها ومن قبلها، كي تنتفش وتحتشد ، وتراكم الصفحات ، وتتمدد في الفضاءات، وفي النهاية فإن الكثير منها يبدو تقليديًا مغمورا ، أو باردا مكرورا ، يحرص على التنظير من غير تدبير، ويضرب في مساحات مكفهرة ومثلوجة حد الموات ، مع أن لهذه الدراسات النمطية الصماء مجالاتها وأهدافها أحيانا ؛ ولكنها تُقَصِّرُ عن إدراكها غالبًا.
إن تلك الأبحاث في الأدب والنقد التي تفرزها الأقسام الأكاديمية بالجامعات، أو يتم بها الترقي ونيل الدرجات ، تخضع لمقاييس علمية ، وأصول مرعية ، وإن كان بعضها ينزع إلى الحفاوة بالصياغة ، غير أن ذلك له حدوده المتعارف عليها من الجدية والدقة ، التي كثيرًا ما يُجَابَه بها النص الأدبي ، وليس من بينها ما يستهدف متعة الكتابة في ذاتها ، أو بهجة التلقي ، وحلاوة الإرسال ، وطلاوة الاستقبال ، عبر نَصّ تذوقي تحليلي ، يوغل في دهشته ، بعد أن يجعل الصورة قوامه ومقصده، ويحرص أن يتوازى جماليا مع النص الشعري ،وهو يتحرى أن يضيف إلى الإبداع إبداعًا ، وإلى الإمتاع إمتاعًا ، حين يصطفي النصوص المفعمة بالصور الرائقة الشاهقة ، وقد تنسم عبيرها فتقصدها ، وحَطَّ على مياسمها اليانعة ، فغازلته وغازلها حدَ التَّولُّه والتَّدلُّه ؛ فتلطف إزاءها ، وتلطفت إزاءه ، وهمس لها فاستهلت ، وهمست له وقد تحلت وتجلت ، ثم دنت وتدلت حتى أسكرته ببوحها الجميل . ومن هنا يشتعلان عبر التحام جمالي ، وتوهج حميم ، يحمله إلى اصطفاء لغتة ؛ ليعانق بها لغة النص ، ويرسم لها أفقا يتساوق معها إيقاعًا وإيحاءً وأصواتا ونبضا وفيضا ؛ ليتبقى لنا في النهاية نص جمالي يلتحم بنص جمالي، وقد تشابكا، وتعانقا، وتعالقا، عبر فضاء جمالي ، ولا ينقصهما حينئذ إلا متلق جمالي في طقس جمالي ؛ لأن من يبتدع ذاك النص التحليلي هو بدوره فنان ؛ فتلك إذن كتابة أخرى.
)