الأحد 9 مارس 2025 11:23 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

السيناريست عماد النشار يكتب : عِبْرَةُ كَاسْتْرُو وَمُسَدَّسُ صَوْتِ البَيْتِ الأَبْيَضِ!

السيناريست عماد النشار
السيناريست عماد النشار

في عالم تحكمه المؤامرات وتتحكم فيه القوى العظمى، كان هناك رجلٌ واحدٌ استعصى على الموت، ليس لمجرد أنه محاربٌ شرس أو زعيمٌ محنك، بل لأن عمره كان مكتوبًا بحبرٍ لا تمحوه الاغتيالات. رجلٌ صمد أمام 638 محاولة تصفية، نجا من السم، من الرصاص، من القنابل، بل حتى من سيجارٍ مسمومٍ دُسّ له في غرفة نومه، لكنه في النهاية، كما لو كان يسخر من قاتليه، مات على سريره في هدوء، وكأنه يترك درسًا أخيرًا: "الأعمار بيد الله."

فيدل كاسترو، الزعيم الكوبي الذي ظل على رأس بلاده لما يقارب خمسة عقود، لم يكن مجرد ديكتاتور متشبث بالسلطة، بل كان لاعبًا رئيسيًا في رقعة شطرنج الحرب الباردة. لم يكن مجرد شوكة في حلق الولايات المتحدة، بل كان صوتًا جهورًا ضد الإمبريالية، رجلًا حوّل جزيرته الصغيرة إلى رقم صعب في المعادلة الدولية. رأوه خطرًا داهمًا يجب استئصاله، فجنّدوا عملاء، وصرفوا الملايين، وحيكوا المؤامرات، ومع ذلك، بقي واقفًا، شامخًا، وكأنه يمارس هواية التلاعب بالموت نفسه.

لم يكن فيدل مجرد سياسي، كان أيقونة للصمود، زعيمًا صارمًا بقدر ما كان ملهمًا. حياته أشبه بفيلم سينمائي طويل، حيث البطل يتعرض للخيانة، للرصاص، للسم، لكنه دائمًا يخرج حيًّا، ليس بمعجزة، بل لأن دوره لم يكن قد انتهى بعد. فحين وضعوا له السم في سيجاره المفضل، لم يكن أحد يعرف أنه أقلع عن التدخين منذ سنوات. وحين رشوا بدلته بمادة كيميائية لتتساقط لحيته، كانوا يظنون أن سحره السياسي يكمن في شعر وجهه لا في كاريزمته! وحين زرعوا له القنابل في الطرق التي يسير بها، كان القدر يغير مساره في اللحظة الأخيرة، وكأن الحياة تلعب لعبتها الخاصة مع الـ CIA، تتركهم يخططون، ثم تسقط خططهم بلمسة ساخرة.

لكن المثير للسخرية ليس فقط فشل محاولات الاغتيال، بل أثرها على الإدارة الأمريكية نفسها. بعد كل فشل، كانت وكالة الاستخبارات تتلقى تقارير تحمل نبرة إحباط، حتى أن بعض المسؤولين قالوا إن اغتيال كاسترو أصعب من وضع رجل على سطح القمر!

وعلى الرغم من كل ذلك، حين جاء أجله، لم يكن برصاص قناص، ولا بانفجار مدبر، بل مات موتةً طبيعية، وكأن كل محاولات اغتياله كانت مجرد استعراض فاشل أمام حقيقة واحدة: لا أحد يموت ناقص عمر، حتى لو اجتمع العالم كله ليقرر العكس.

فيدل كاسترو لم يكن مجرد زعيم، بل كان عبرة لمن أراد أن يعتبر ، رجلًا خرج من التاريخ ليعيد كتابته. وكما يقول المثل الشعبي: "إديني عمر وارميني البحر"… وكاسترو لم يُرمَ في البحر، بل ظل واقفًا حتى النهاية، ليسخر من جلاديه، ويرحل حين يشاء القدر، لا حين تشاء المؤامرات.

لكن التاريخ لا يكرر نفسه بنفس الطريقة، بل يغيّر أدواته. بالأمس كانت الوكالة تحيك المؤامرات في الخفاء، واليوم يتولى البيت الأبيض المهمة علنًا… بصخب التغريدات والتهديدات الجوفاء، دون حتى عناء إخفاء النوايا. فإذا كان كاسترو قد نجا من 638 محاولة اغتيال، فإن زعماء اليوم يواجهون 638 تهديدًا في السنة الواحدة، يوزعها ترامب على العالم كما توزع الصحف عناوينها الصباحية.

وإن كانت الـ CIA قد ورثت خيبة أملها من كاسترو، فإن ترامب ورث هوس التهديدات، محاولًا أن يُكمل المسيرة لكن بأسلوب أقل دهاءً وأكثر صخبًا. فحين وصل إلى السلطة، قرر أن يهزّ العالم بتغريداته، يهدد هنا، يتوعد هناك، حتى بدا وكأن كل صباح في واشنطن يبدأ بإلقاء حجر نرد لتحديد الدولة التي ستهددها أمريكا اليوم!
غزة مهددة ،إيران مهددة، كوريا الشمالية مهددة!
الصين مهددة،المكسيك مهددة… رغم أنها مجرد جارة تحاول منع المخدرات من التدفق شمالًا!
بنما مهددة… فقط لأنها موجودة!
كندا أيضًا مهددة،وكأن شلالات نياجرا تخفي مفاعلًا نوويًا سريًا!
وأوكرانيا؟ تهديد علني لرئيسها مقابل "خدمة خاصة"!
إنه العصر الذي تتحول فيه السياسة إلى استعراض مسرحي، حيث لا فرق بين البيت الأبيض وهوليوود، سوى أن الثانية تعترف بأنها تقدم أفلامًا خيالية، أما الأولى فتُقسم أنها تقدم الحقيقة المطلقة.

لكن، كما أثبت التاريخ، فإن التهديدات الأمريكية لا تقتل زعيمًا محنكًا، ولا تُسقط فكرة، ولا تُطفئ ثورة. فلو كانت الـ CIA قد فشلت في اغتيال كاسترو رغم كل الوسائل القذرة، فإن سياسة التهديدات الصاخبة لن تغير شيئًا في معادلات القوة الحقيقية. الفرق الوحيد هو أن كاسترو كان يدرك كيف يتلاعب بالموت،وحين جاء أجله، لم يكن برصاص قناص، ولا بانفجار مدبر، بل مات موتةً طبيعية،بينما أغلب زعماء اليوم قد لا يمتلكون نفس الحظ أو الدهاء.

أما التاريخ، فهو لم يغلق صفحته عنه بعد… لكنه بالتأكيد أغلقها أمام أولئك الذين يظنون أن الاغتيالات والمؤامرات والتغريدات النارية يمكنها أن تصنع مجدًا!