الأربعاء 26 مارس 2025 04:29 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الدكتورة عزة شبل محمد تكتب: ”في ظلال الحياة” الهوية المصرية في إبداع السيرة الذاتية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

جاءت السيرة الذاتية "في ظلال الحياة" للأستاذ الدكتور عوض الغباري الأستاذ بكلية الآداب في جامعة القاهرة خلاصة تجربة في الحياة العملية والعلمية، فجمعت إلى جانب القيم الإنسانية، آراء نقدية، وفلسفية، فصارت وثيقة تاريخية على حياة استمرت قرابة السبعين عامًا من الفكر والعلم والعمل، وعلى الرغم من كونها خطابًا حكائيًّا يندرج تحت نوع السيرة الذاتية، بدلالة العنوان الفرعي المطبوع على غلاف الكتاب، فإن المؤلف استطاع ببراعة شديدة، من خلال عمق الحكي وسلاسته أن يقدم للقارئ عملًا يكشف عن أبعاد الشخصية المصرية وأصالتها، وأثرها الممتد عبر العصور.
وردت السيرة في سبعة فصول، يجمعها العنوان الرئيسي "في ظلال الحياة" المتناص مع كتاب "في ظلال القرآن"، وجاءت عناوين الفصول كاشفة عن مراحل النشأة والتكوين، والفكر والنضوج الثقافي، كاشفةً عن تدرج عمري ومعرفي على المستوى الأكاديمي، وعلى المستوى الإنساني؛ لذا تنوعت القضايا المطروحة في السيرة ما بين الموضوعات الخاصة بالمؤلف، والموضوعات التي تخص الشأن العام للبلاد، وختامًا بالفصل السابع وعنوانه "بداية جديدة"، الذي جاء استشرافًا لحياة جديدة برؤى المستبصر الحكيم الذي خبر الحياة بمنطق ووعي مستنير.
ومن اللافت للنظر أن الطبيعة، وخاصة نهر النيل الذي أبدع شعراء مصر في وصفه، كان لهما أثرهما الجلي في صياغة العناوين السبعة لفصول السيرة، فجاءت ذات طابع شعري، تبدو كأنها عناوين قصائد مغناة، أو دواوين للشعر، كما في "غروب الشمس وشروقها"، و"نسائم أمل، و"عبير الحياة"، و"ربيع الأمل"، و"حنين وأنين"، و"بدايات جديدة".
وحين يمتزج سرد السيرة الذاتية بالحكي عن المكان، يفوح منها رائحة الهوية، ويسري في عروقها معالمه وذكرياته. لقد تمفصلت السيرة حول وصف ثلاثة أماكن رئيسية، هي "بلطيم" بلد المنشأ، والقاهرة حيث تحصيل العلم والعمل، واليابان التي تمثل مرحلة العطاء والاستمتاع، والانتقال الحضاري. يدخلنا الكاتب بأسلوبه الفريد في أدب الرحلة مع تلك الأماكن بمزاوجة بين الوصف الحسي، والوصف المعنوي، يستحضر كل حواس المتلقي، مستميلاً شعوره تجاه تلك القصص التي يرويها عن تلك الأماكن، جاعلاً إياه شريكا له في معايشتها.
فبلطيم هي تلك المدينة الساحلية التي راح المؤلف يتغزل في شواطئها، ورمالها، وسمائها، وأشجارها، وزهورها، وهوائها العليل، ومناظرها الخلابة التي تستقطب السياح، فيأتون إليها من كل مكان، كما أنها، وما تزال مقصدًا لمخرجي الأفلام السينمائية الباحثين عن الجمال في شواطئها، لذلك يذكرنا المؤلف بفيلم "لحن الخلود" الذي قام ببطولته كل من فريد الأطرش وفاتن حمامة، وكان في هذا المصيف.
أما القاهرة، فتمثل نقلة ثقافية كبرى في حياة المؤلف؛ لأنها مرحلة انتقاله إلى التعلم في جامعة القاهرة، والتتلمذ على يد أساتذتها الكبار، من أمثال طه حسين، وسهير القلماوي، وشوقي ضيف، وحسين نصار الذي صار مشرفًا له في مرحلتي الماجستير والدكتوراة، وغيرهم الكثير ممن نهل من علمهم وثقافتهم وخلقهم، فأصبح بعد ذلك زميلاً لهم، أستاذًا جليلًا، يحذو حذوهم في الفكر والثقافة والحياة. وطبعت القاهرة في ذاكرته ووجدانه بمدنها، وشوارعها، وميادينها، ومساجدها، العديد من القصص التي ترويها السيرة عن تلك الأماكن الشعبية التي يتردد عليها آلاف المصريين، يألفونها، وتألفهم، فصارت تلك الأماكن بأهلها، وحكاياتها جزءًا من الهوية المصرية. يحدثنا المؤلف عن أشهر المساجد في مصر، مسجد الأزهر، والحسين، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة، وأجواء رمضان في مصر، وشخصية المسحراتي، و"عادة الأسرة المصرية في صنع الطعام، والحلوى، خاصة في المناسبات العامة، حيث يلتف أفراد الأسرة كبارًا وصغارًا في دفء عائلي يصنعون صنوف الكعك والبسكويت في العيد، أو تصنع الأم الكنافة بالسمن والسكر، أو تقوم بعمل المشروبات الرمضانية، وتقديم ياميش رمضان، كما تصنع الأم بعض الأطعمة، مثل صيادية السمك، وهي أكلة مشهورة في المدن الساحلية"، ويحكي لنا قصص الرحلات التي كان يقوم بها مع الطلاب الأجانب عندما كان مديرًا لمركز اللغة العربية بجامعة القاهرة؛ لتوعية الطلاب بتلك الأماكن، ويلعب وصف هذه الأماكن في خطاب السيرة أدوارًا عديدة في الكشف عن عمق الشخصية المصرية، وارتباطها بالمكان، على نحو ما صوره الكاتب الكبير يحيي حقي في روايته "قنديل أم هاشم" التي تحولت لروعة فكرتها إلى فيلم سينمائي.
أما المحطة التالية في سيرته، فكانت اليابان، حيث قضي الأستاذ الدكتور عوض الغباري ست سنوات أستاذًا زائرًا بكلية اللغات الأجنبية، بجامعة أوساكا، وهي الجامعة الثانية، بعد جامعة طوكيو. وتروي السيرة قطوفًا من الحياة الاجتماعية والثقافية الجديدة التي عاشها المؤلف. ومثلما كان الحكي عن المكان في القاهرة مرتبطًا بالكشف عن الهوية المصرية في عاداتها، وتقاليدها، وأشهر مأكولاتها، فقد قدم الحكي عن اليابان، تجربة حياتية، يمكن أن نعدها من قبيل السرد التقابلي، حيث يحكي المؤلف عن الأماكن، والمدن التي زارها في رحلاته داخل اليابان، مقارنًا في وعيه بين عاداتها، وتقاليدها، وطبائع شعوبها، وأشهر مأكولاتها، وحياته في مصر بين أهلها.
لقد تميزت هذه السيرة بميزة فريدة، مما جعلها تختلف عن السير الذاتية السابقة عليها، وربما اللاحقة لها، ترتبط هذه الميزة بخصوصية ثقافة المبدع المصرية الموسوعية، بوصفه متخصصًا في دراسة الأدب المصري، فقد كان لهذه الثقافة أثرها الواضح في نسيج السيرة، فجاءت مرصعة بنوع متفرد من تراجم الأعلام المصرية، ووصف جغرافية المكان، وتحليل نقدي لروائع مصادر التراث المصري، ومختارات من قصائد الأدباء المصريين، كل ذلك في قالب حكائي، مزاوجًا بين الحكي الذاتي بضمير المتكلم من ناحية، والحكي التواصلي مع القارئ باستخدام ضمائر الخطاب، ومستخدمًا الحكي المحايد مع ضمائر الغيبة من ناحية أخرى، وبذلك تشكَّل نسيج السيرة من عدة خطابات تنوعت بين الذاتية والغيرية، مناجيًا الكاتب ذاته، معبرًا عمَّا في نفسه، ومقدمًا إرثًا ثقافيًّا ضخمًا عن مصر، وأشهر أدبائها، وكتابها، وشعرائها، وفنانيها، وعلمائها، ودورهم في تأليف الدواوين، والكتب، والموسوعات، في مختلف الفنون والعلوم والآداب، فضلاً عن التأريخ لما خاضته البلاد من حروب كبرى، صمدت فيها الشخصية المصرية ضد المستعمر الأجنبي، ومساندتها للقضية الفلسطينية، والدفاع عن الأرض، إنها حكاية شعب، وقصة أرض، وتأريخ لمحطات كبرى في عمر الحضارة المصرية على مر العصور.
وعلى الرغم من الخصوصية الثقافية للمبدع التي انعكست في تحليلاته النقدية، ومختاراته الشعرية، ومصادر الثقافة المصرية التي قدم لها شروحًا موجزة دالة، فقد توقفت السيرة طويلًا عند جذور الإنسان المصري الذي ارتبط بالأرض ارتباطًا وثيقًا، "فحياة الفلاح البسيط نستشف منها حياة المصريين في العادات والتقاليد والأفراح والمآتم، والصبر على المكروه، والإقبال على الحياة، مع التدين العميق. كذلك نستشف من الحياة المصرية حكمتها وفلسفتها من الأمثال الشعبية والحكايات والنوادر والأشعار والفكاهة التي تناقلناها من الريف المصري شمالًا وجنوبًا. وكانت الفكاهة التي يميل إليها المصريون تنفيسا عن كروبهم، وسعيًا إلى تحقيق التوازن النفسي، كما كانت رسالة تحمل في طياتها سعيًا إلى إصلاح أحوال الفلاح المصري، وهو عماد مصر. وإذا كان نهر النيل قد جاد على مصر بخيره، وتأسست حضارة مصر على رافده، فكذلك كان الفلاح المصري في عطائه وخيره الوفير وتجسيده لصورة مصر الحبيبة".
لقد حفلت السيرة بالعديد من التراجم للأعلام المصرية الذين نفخر بهم في شتى المجالات من القدماء والمعاصرين، ومن هؤلاء "أحمد شوقي"، و"حافظ إبراهيم"، و"الشيخ محمد عبده" و"عباس محمود العقاد"، و"إبراهيم عبد القادر المازني"، و "أمين الخولي"، و"عائشة عبد الرحمن"، و"شوقي ضيف"، و"حسين نصار"، و"أحمد أمين"، و"نجيب محفوظ"، و"توفيق الحكيم"، و"يحيى حقي"، و"أم كلثوم"، و"السيوطي"، و"ابن سناء الملك، و"محمد القصاص" الملقب بـ "أبو البيئة"، و"السخاوي"، والزعيم "سعد زغلول"، زعيم ثورة 1919م ضد الاحتلال الإنجليزي، و"أحمد عرابي"، والشاعر الكبير صالح الشرنوبي" رائد التجديد في الشعر الحديث، و "الشيخ عبد العزيز البشري"، و"ذو النون المصري"، وغيرهم من الأعلام المصرية. وقد كشفت السيرة عن دور هؤلاء الأعلام في "الإعلاء من شأن الوطن والسعي به إلى مرافئ الحرية والكرامة والازدهار. وقد أضاءوا الطريق إلى الإبداع والفكر والفن والأدب وسيلة وغاية لصالح مصر والمصريين".
لقد كرس المؤلف حياته حبًّا لمصر، وشغفًا بعلومها، وسعيًا وراء الكشف عن تفرد شخصيتها، فألف العديد من الكتب، من مثل كتاب "أطياف من الفكر والأدب"، وكتاب "أعلام مصرية" الذي ترجم فيهما للعديد من الشخصيات المصرية رجالًا ونساء في مختلف المجالات، وكتاب "قطوف مصرية" الذي تناول فيه أهم جوانب الشخصية المصرية من خلال دراسة الدور الرائد لعالم الآثار الشهير "سليم حسن"، وكشفه لكنوز الأدب المصري القديم في كتابه القيم "الأدب المصري القديم"، وغيره من الأعلام المصرية.
تلك القطوف التي تكشف عن جانب ثري من عطاء مصر وعظمائها، إنها سيرة ذاتية للشخصية المصرية الفريدة ممثلة في شخص واحد من أبنائها المخلصين هو الأستاذ الدكتور عوض الغباري، الذي أثرى المكتبة العربية بأكثر من اثنين وأربعين كتابًا، وسبعين بحثًا، والعديد من المقالات تجاوزت المائة في الصحف والمجلات داخل مصر وخارجها، فضلًا عن العديد من المحاضرات خلال أنشطة الجمعيات العلمية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، بعنوان: مستقبل اللغة العربية، والشخصية المصرية الأدبية، والأدب المصري في العصور الإسلامية." وغيرها من المحاضرات التي ألقاها في المحافل العلمية، وتأسيسه لمدرسة الأدب المصري بين أبنائه من طلاب الدراسات العليا في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، منشغلاً بالكشف عن الهوية المصرية، مكبًّا على دراسة الأدب المصري، ومثل هذا الإنتاج العلمي الغزير حري بأن يُعقد له مؤتمر دولي يشارك فيه العديد من الباحثين المهتمين بالهوية المصرية وعلاقتها بالأدب والثقافة بشكل عام؛ لدراسة إنتاجه الفكري والنقدي الغزير، وعطائه الممتد عبر الزمن.
إنها سيرة للشخصية المصرية مُمثَّلة في علم من أعلامها الأفذاذ المتواضعين الأستاذ الدكتور عوض الغباري، سيرة يتطابق فيها القول مع العمل في رحلة عطاء استمرت قرابة الخمسين عامًا، تحمل في طياتها سيرًا لأعلام مصر ومفكريها ومثقفيها ومبدعيها وعمالها، وفلاحيها في قالب سردي جمالي يحتوي على أكثر من ستين بيتًا من روائع الشعر المصري، وربما تكون هي المرة الأولى في تاريخ السير الأدبية التي يجد فيها القارئ مثل هذه التناصات الشعرية التي تضيف إلى البعد الحكائي أبعادًا جمالية، على غرار السير الشعبية، مع اختلاف مصادر الشعر، ووظائفه التواصلية.
كما خط المؤلف في سيرته الذاتية بعد رحلة عطاء علمية ونقدية خرائط ذهنية للنقد والإبداع، ينقلها للقارئ المثقف بخطى ثابتة وواضحة، راسمًا حدودها، وأبعادها، ومصادرها بشكل واضح ورصين. فاحتوت السيرة على نصوص كاملة أتمنى أن تجمع في كتاب عن أدب مصر الإسلامية، مع مقدمة شارحة تكشف عن طبيعة النفس المصرية، وعلاقتها بالأرض التي نشأت عليها. فالسيرة تقدم ما مايفيد المتخصص في تتبع استراتيجيات وتقنيات النقد البيئي، كما تقدم للمثقف العام العديد من العلوم والمعارف والقيم الإنسانية التي تقدمها تجربة حقيقية معاشة لابن من أبناء مصر المخلصين، وعلم رائد من أعلامها في حقل الأدب المصري.
وما زال فن السيرة الذاتية يتجدد، وتطالعنا نماذج تفتح عوالم جديدة، ومساحات ممتدة ومترامية، تكشف عن سمات الانفتاح والخصوصية والأصالة، فجزيل الشكر والتقدير لعالمنا الجليل على هذه الوثيقة التاريخية المهمة، وهنيئًا للقارئ المصري والعربي بقراءة هذا العمل الثقافي الرائد في موضوعه، وخصوصية إبداعه.


#كلية الدراسات الأجنبية بجامعة أوساكا- اليابان

222e72cbf89b.jpeg