شحاته زكريا يكتب : من خان الخليلي إلى غزة.. القاهرة ترسم ملامح الدور الأوروبي الجديد


في مشهد يحمل أكثر من دلالة سياسية حل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضيفا على القاهرة في زيارة تأتي وسط لحظة إقليمية بالغة الحساسية حيث تتقاطع الأزمات وتتشابك المصالح بينما تبحث أوروبا عن موطئ قدم أكثر ثباتا في معادلات الشرق الأوسط. لم تكن الزيارة بروتوكولية تقليدية بل حملت بين سطورها مؤشرات لتحول محتمل في مقاربة باريس – وربما أوروبا – تجاه قضايا المنطقة انطلاقا من شراكة متجددة مع مصر القوة العربية الأكثر اتزانا وسط الإعصار.
منذ اللحظات الأولى بدا أن الزيارة تسير في مسار غير معتاد فقد اصطحب الرئيس عبد الفتاح السيسي نظيره الفرنسي في جولة شعبية بين أروقة خان الخليلي ، حيث تختلط رائحة التاريخ بصوت الحياة اليومية. كانت الصورة أبعد من كونها لفتة شخصية لقد حملت رسالة رمزية تؤكد أن القاهرة لا تزال حاضنة للاستقرار والانفتاح في منطقة تعصف بها التوترات.
لكن الزيارة رغم طابعها الإنساني لم تخلُ من ثقل الملفات السياسية وعلى رأسها النزيف المستمر في غزة والاضطرابات في البحر الأحمر والانهيارات المتوالية في ليبيا وسوريا ولبنان. ولعل ما يعطي هذه الزيارة طابعا استراتيجيا هو تقارب الرؤى بين القاهرة وباريس، في وقت بدأ فيه القادة الأوروبيون يشعرون بضرورة تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة ، التي بدا موقفها من الحرب في غزة مترددًا وغير قادر على فرض حلول حقيقية.
ماكرون الذي لطالما تحدث عن "الاستقلالية الاستراتيجية" لأوروبا جاء إلى مصر وهو يحمل هذا التوجه في ذهنه ساعيا لإعادة تعريف الدور الفرنسي في الشرق الأوسط من خلال تحالفات موثوقة وشراكات عميقة. وفي هذا الإطار تظهر مصر كخيار مثالي ، بفضل ما تتمتع به من ثقل سياسي وجغرافي وقدرة على التواصل مع كافة أطراف المعادلة الإقليمية.
القاهرة من جانبها رحبت بهذه الرؤية خاصة أنها تتقاطع مع الجهود المصرية الرامية إلى وقف إطلاق النار في غزة وتدشين مرحلة إعادة إعمار مشروطة بضمانات سياسية تمنع تجدد دوائر العنف. وقد بدت هناك مساحة مشتركة واسعة بين الجانبين تتيح بناء أجندة دبلوماسية جديدة تقوم على تثبيت التهدئة، وخلق واقع إنساني أفضل للفلسطينيين.
الزيارة تحمل أيضا أبعادا أوروبية خالصة إذ تأتي في وقت تتعرض فيه القارة لضغوط متزايدة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وتفاقم التباينات بينها وبين واشنطن في مجالات التجارة والطاقة والدفاع. وبالتالي فإن تعزيز العلاقات مع دول إقليمية كبرى مثل مصر لم يعد خيارا تكتيكيا بل ضرورة استراتيجية لفرنسا وربما لأوروبا بأسرها.
ولم يغب البعد الاقتصادي عن الزيارة فقد شهدت توقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم في مجالات الطاقة المتجددة والتعليم والنقل والتكنولوجيا، ما يعكس رغبة فرنسية في تعميق الشراكة وتحويلها إلى تعاون شامل تتكامل فيه السياسة مع الاقتصاد.
رغم ذلك،ط يبقى التحدي الأكبر هو قدرة باريس على إقناع شركائها الأوروبيين بالتحرك المشترك خارج عباءة السياسة الأمريكية والقيام بدور فاعل في المنطقة بدلا من الاكتفاء بردود الفعل. فالدور الأوروبي المنشود يتطلب قرارات جريئة واستثمارات دبلوماسية حقيقية، ورؤية طويلة المدى.
ماكرون في رهان واضح يرى في القاهرة مركز الثقل الذي يمكن أن تنطلق منه خريطة جديدة للدور الأوروبي ليس فقط لأن مصر تملك موقعا جغرافيا فريدا ومكانة سياسية بارزة بل لأنها أثبتت في السنوات الأخيرة أنها قادرة على أن تكون طرفا موثوقا ومحوريا في أزمات المنطقة.
في النهاية قد لا تكون زيارة ماكرون مجرد محطة دبلوماسية في جدول مزدحم بل ربما تمثل بداية لتحول أوسع في نظرة أوروبا للشرق الأوسط. تحول يبدأ من خان الخليلي ويمتد إلى غزة وطرابلس وبيروت، وتحتضنه القاهرة كجسر بين الضفتين.