الأديب الناقد زكريا نمر يكتب عن : ”المثقف المزيف أزمة وعي أم موضة فكرية؟”


إن انتشار ما يمكن تسميته بالمثقف المزيف" في هذا الجيل، ساهم في إنتاج جيل متردد، يخشى التعبير العلني عن رفضه لبعض الأفكار الشائعة، حتى وإن كانت تتصادم بوضوح مع قناعاته ومبادئه. بل وحتى إذا كانت هذه الأفكار تهاجم دينا، أو تنتصر لنظام استبدادي، أو تسيء لمجتمع بأكمله، يفضل البعض الصمت، بدعوى الحفاظ على صورة "المثقف المقبول".
هذا الخوف لا ينبع فقط من قلة الجرأة، بل من ترسيخ مفهوم هزلي مفاده أن المثقف الحقيقي هو من يقبل كل شيء بصدر رحب، ولا يرفض أي فكر مهما كان ملوثا أو عبثيا. وفق هذا التصور السطحي، لا يسمح لك بأن ترفض أفكار نيتشه أو سيوران أو كانط أو فرويد أو بيكيت أو حتى سقراط، لمجرد أن أسماءهم صارت جزءا من "الذوق الثقافي العام". وكأن رفضك لفكرة ما يعني بالضرورة جهلك، لا موقفك النابع من فهم عميق وقناعة صلبة.
هكذا تجد هذا الدخيل على الثقافة يسرع للدفاع الأعمى عن أي فيلسوف أو مفكر، حتى لو كانت أفكاره تهدم الدين وتزدري الأخلاق وتشكك في المبادئ، فقط ليتجنب نقد زملائه ممن يطلقون على أنفسهم "مثقفين"، وليحتفظ بمكانه بينهم، ولو على حساب الحقيقة والصدق مع الذات.
لقد أصبح المشهد مزعجا للغاية. يقرأ أحدهم رواية سطحية لكاتبة مغمورة، ثم يلتقي بثلاثة أو أربعة أشخاص في مناسبة ما، ليبدأوا في الإشادة بالأسلوب والأسطر الرنانة التي لا تحمل مضمونا. ثم يتطوع أحدهم للدفاع باستماتة عن تلك الرواية أو فكرة ما، دون أن يملك أي فهم حقيقي لها، فقط لأنه يريد أن يبدو مثقفا ويتبع "الموضة الفكرية" الرائجة.
وللأسف، نجد كثيرين من هذا الجيل قد ابتعدوا عن الثقافة بمعناها العميق. بدلا من بناء قاعدة فكرية متينة تنطلق من فهم الذات والمجتمع والدين، يسارعون إلى تبني أفكار متناقضة مع هويتهم، قبل أن يمروا بأي تجربة فكرية حقيقية تمكنهم من التمييز بين الغث والسمين، بين الفكر العميق والفكر المنحط.
هنا نصل إلى لب الإشكال: ظاهرة المثقف المزيف ليست فقط ظاهرة فردية سطحية، بل أصبحت تمثل إشكالية فلسفية وثقافية عميقة تؤثر على المفهوم العام للثقافة في مجتمعنا المعاصر. فبدلا من أن يكون المثقف هو ذلك الذي ينقل المجتمع من الوعي البسيط إلى الوعي المركب، من الانفعال إلى الفعل، ومن التكرار إلى التجديد، أصبح اليوم نموذجا استهلاكيا، يعيد تدوير أفكار الآخرين، ويرتديها كزينة فكرية دون مساءلة أو تمحيص.
لقد أصبح المثقف المزيف معولا لهدم الوعي، لأنه يختزل الثقافة في تكديس الأسماء والمقولات، بدلا من تحويل المعرفة إلى موقف نقدي حي. وهو بذلك لا يسهم في تحصين المجتمع ضد الرداءة، بل يفتح له الأبواب. بل الأخطر من ذلك، أن هذا النموذج المزيف أصبح يكرس عبر المنصات الإعلامية والجامعات والفضاءات الثقافية، حتى صار هو "النموذج السائد" للمثقف، بينما تم تهميش المثقف الحقيقي الذي يزعج بمنهجه، ويفضح السائد بصدقه، ويعيد طرح الأسئلة التي يخشى الآخرون سماعها.
المثقف المزيف، إذا، لا يكتفي بأن يكون ضحية التبعية، بل يتحول إلى أداة لإعادة إنتاج التبعية. إنه يسوق للاغتراب الثقافي والفكري، ويدفع الشباب نحو الانفصال عن جذورهم وقيمهم، باسم "التحرر" و"الحداثة"، دون أن يعي أن الحداثة ليست في الهروب من الذات، بل في تعميق فهمها وتجديدها.
وإذا لم نبدأ بفضح هذا النموذج الزائف، ومواجهة التواطؤ الذي يحيط به، فإننا سنظل ندور في دوامة من "التهريج الثقافي"، حيث تستبدل الأسئلة الحقيقية بشعارات، والمواقف بالفلكلور الفكري، والعقول بالنسخ.
لهذا، فإن المعركة اليوم ليست فقط مع الأفكار، بل مع من يدعي تمثيلها. إنها معركة على المعنى، على العمق، وعلى الصدق. وكل من يسعى لبناء ثقافة حقيقية، عليه أن يبدأ أولا بنزع الأقنعة.