الأربعاء 16 أبريل 2025 10:50 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : ”العفاريت.. ليه ساكنين الريف ومش بيحبوا الكومبوندات؟! — رحلة عقلانية في زحام الخرافة واليقين”

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

من منا لم يسمع في طفولته عن بيت مهجور في أطراف القرية يسكنه العفاريت، أو عن شجرة في منتصف الغيط لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها لأن الجان يختارها مجلسًا له بعد المغرب؟ ومن منا لم يمر بحكاية الجارة التي أصيبت بحالة إعياء غامضة لم يجدوا لها تفسيرًا، سوى أنها ضحية "مس من الجن" أو صنيعة سحر مدفون في المقابر؟

لكن الغريب، أن تلك القصص دائمًا تسكن القرى والمناطق الشعبية المكتظة بالسكان . وتُحاك في جلسات الليل تحت ضوء مصباح خافت، ولا تجد لها مكانًا وسط صخب المدينة ولا بين أسوار الكومبوندات المكيفة، وكأن العفاريت تملك ذوقًا اجتماعيًا ريفيًا صرفًا، يرفض الحياة الراقية ولا يقبل أن يعيش بين سكان "الهاي كلاس"!

الحقيقة أن عالم الجن حقيقة إيمانية ثابتة، أمرنا الله تعالى بالإيمان بوجودها، ووصفهم في آياته بأنهم مخلوقات خُلقوا من نار، يعيشون في عالم موازي لا نراه، ولا نعلم عن تفاصيله سوى ما أخبرنا به الخالق سبحانه. أما "العفاريت" التي نسمع عنها في الحكايات الشعبية، فهي كائنات منسوجة بخيوط الخيال والخوف، تخرج من رحم التقاليد والعادات أكثر مما تخرج من عالم الغيب.

وفي القرى، تظل البيوت القديمة التي يغمرها الهدوء، والشوارع التي يلفها الظلام مع أول غروب، والأصوات غير المفسرة التي تصدر من أشياء طبيعية مثل الخشب المتمدد أو الرياح خلف النوافذ، بيئة مثالية لعقل يهوى أن يربط كل شيء بغموض مخيف، فيتحول الصوت الخافت إلى همس جن، وتصبح الخيالات العابرة فوق الجدران مشهدًا سينمائيًا من أفلام الرعب.

أما في المدن والكومبوندات، فالأمر مختلف تمامًا، إذ لا مساحة هنا للخرافة في ظل زحام التفاصيل اليومية. بين كاميرات المراقبة وأجهزة الإنذار وضوضاء السيارات، ولا يستطيع الخيال أن ينسج حكاية كاملة لعفريت يرتدي جلبابًا أبيض، ويظهر في الثالثة فجرًا، ليخيف الساكنين.
كما أن المشكلات النفسية في المدينة تجد لها طبيبًا ومعمل تحاليل قبل أن تجد شيخًا يكتب "حجابًا" أو يُرقي مريضًا، وبالتالي يضيق الخناق على تلك القصص التي لا تعيش إلا في فراغ الفهم ونقص التفسير.

والحقيقة الأكثر سخرية أن الخوف نفسه هو الأب الحقيقي لكل تلك الحكايات، حيث يتحول الليل في القرى إلى مصنع كبير لإنتاج الأوهام، فكل ظل غامض يحمل اسم عفريت، وكل مرض بلا سبب واضح يصبح لعنة جن، وكل صوت غريب يكتسب صفة ما ورائية قبل أن يُبحث عن مصدره الحقيقي.

وفي المجتمعات الريفية، الحكايات الشعبية أيضًا تلعب دورًا أكبر من مجرد قصص للتسلية، فهي وسيلة لتفسير الغامض، وذريعة لتخويف الأطفال من مغامرات غير محسوبة، وحل بديل عندما يعجز المجتمع عن فهم أو تفسير حدث ما. أما في المدن، فالعلوم الحديثة قلصت حجم الخرافة وقلصت معها سلطة العفاريت، وأصبح الطبيب النفسي هو من يقرر التشخيص، وليس الجدّ أو الجارة.

وبرغم التطور التكنولوجي والعلمي، وبرغم أن الإنسان اليوم يعيش في عالم يعتمد على الدليل العلمي والتفسير المنطقي، إلا أن الخرافة تظل حاضرة بقوة في أماكن يسيطر فيها الجهل أو الفراغ الثقافي. فكلما غاب العلم عن تفسير حدث، حضر العفريت فورًا ليملأ ذلك الفراغ، ويعفي العقول من مهمة البحث والتفكير.

ويبقى عالم الجن في النهاية أمرًا غيبيًا حقيقيًا، لا مراء فيه، لكن التحويل المستمر لكل غريب في حياتنا إلى "عفريت" قادم من عالم مجهول، يعكس رغبتنا الدائمة في البحث عن كبش فداء، سواء كان هذا الكبش من الجن أو من الخيال.

وقد تكون العفاريت بريئة فعلًا من كل تلك التهم التي نُلصقها بها، ربما كانت تكره فعلًا التجول في الريف طوال الوقت، لكن البشر قرروا تحميلها كل ما لا يفهمونه، بينما هي، في عالمها الخفي، تتابع من بعيد تلك المسرحية الساخرة، وتضحك في صمت، لأننا نحب إلقاء اللوم دومًا على من لا يملك حق الرد!
ثم بعد كل ذلك.
هل تخاف من العفريت إذا رأيته يتسلق شجرة الجميزة بالقرب من الساقية على أطراف الترعة في غيط جدك المرحوم.؟!