السبت 19 أبريل 2025 07:35 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

السيناريست عماد النشار يكتب : شاحن أصلي

السيناريست عماد النشار
السيناريست عماد النشار

في عالمٍ لا تُرى فيه الأرواح بل تُشحن، كان هناك شاحن أصلي لا يُشبه سواه. لم يكن مصنوعًا من أسلاك أو بلاستيك، بل من لحمٍ ودم، من عرقٍ وسهر، من صبرٍ طويل ونبضات خافتة تُوزّع الحياة دون أن تُرى. لم يكن براقًا، ولا مزودًا بتقنيات فائقة، لكنه كان يملك شيئًا لا تملكه كل الابتكارات الحديثة: الثبات، والإخلاص، والحب المتجذر في أعماق التيار.
كان يُلجأ إليه حين تخور الطاقات، حين تتعثر الطموحات، حين تضيق الدنيا وتضيع الإشارات. لم يكن أحدٌ في هذا البيت، في هذا "الجهاز العائلي"، إلا ومرّت يده عليه، لكن دون وعي، دون شكر. لم يسأل أحد: هل تعب؟ هل ما زال يحتمل؟ هل لا يزال قلبه النابض بالتيار قادرًا على العطاء؟ طالما أنه موجود، طالما أن الطاقة تصل، فليس هناك ما يستدعي التوقف أو الالتفات.
عاش في الظل، بجانب القابس، بجانب الباب، بجانب المائدة، في كل ركن يُهمل فيه الضوء ويُطلب فيه الأمان. لا يُنظر إليه إلا حينما تُستنزف الأرواح، ولا يُستدعى إلا عندما تُعطّل الأحلام. كانت أسلاكه تذبل، ظهره ينحني قليلاً كل عام، يديه ترتجفان أحيانًا، وصوته الداخلي يخفت. كل عطبه يُرمم بشريط من الصبر، وكل صدعه يُغطى بابتسامة تخفي ما لا يُقال. لم يكن أحد يسأل: هل هو بخير؟ هل ما زال قلبه يشحننا؟ لا... طالما أنه لا يشتكي، فلا حاجة للسؤال.
والوقت يتسرب، كما يتسرب تيار الحياة، ولا أحد يلاحظ الفارق.
مرت السنوات، وبدأ الشاحن يُظهر علامات الزمن. لم يعد كما كان. لم تعد سرعته كما كانت. البطاريات الجديدة لم تعد تتوافق معه كما اعتادت. لم يعودوا يحتملون بطء حكمته، صاروا يرونه ثقيلاً، قديمًا، غير صالح لعصر السرعة. صارت نصائحه تُشبه "تحميلًا بطيئًا"، وقيمه "برمجيات غير مدعومة". ظنوا أنه تجاوز مرحلته، وأن المرحلة الجديدة لا تتطلبه.
ثم، في أحد الأيام، تعطل،لم يكن انقطاعًا مفاجئًا، بل انسحابًا هادئًا. لم يُحدث ضجة، لم يصدر صفيرًا أخيرًا. فقط توقف. جلس في الظل، كما اعتاد، بلا تيار. لم يُبك عليه، لم يُحتفل به، لم يُكتب له وداع. وُضع بهدوء في زاوية درج، بين أسلاك قديمة، ومقتنيات لم تعد تنفع. لم يُلاحظ غيابه إلا من الضوء الخافت الذي لم يعُد يُضيء.

استمرّت الحياة... أو هكذا ظنّوا، وجاءت البدائل، شواحن لامعة، سريعة، بوعود مذهلة. كانت تشحنهم بسرعة، وتُفرغهم أسرع. كان البريق مؤقتًا، وكانت الطاقة سطحية. شيئًا فشيئًا، أدركوا أن شيئًا ما ناقص. لم يكن النقص في الأداء، بل في الأثر. كانوا ينهضون ممتلئين شكليًا، فارغين من الداخل، نصف مشحونين، في منتصف الطريق.
وحين بدأت أرواحهم تتسرب، كما تسرب منهم سابقًا، تذكّروه. تذكروا الصوت الذي لم يكن يصيح، لكنه كان يملأ المكان دفئًا. تذكروا اليد التي كانت تُعدّل أوضاعهم دون أن تطلب شكرًا، والتي كانت ترفعهم كل مرة يسقطون فيها دون أن تذكرهم بذلك. تذكروا التيار الذي لم يكونوا يرونه، لكنهم عاشوا عليه،لكنهم لم يعودوا إليه. أو عادوا متأخرين.
عادوا في مساءٍ بارد، حين لم يعُد ثمة شيء يعمل. حين أصبح مجرد سلك ملفوف بصمت، وذكرى دافئة تجلس في الزاوية. لم يعد يضيء، لم يعد يوصل شيئًا. فقط... كان هناك. صامتًا، مثل كل ما كان عليه دومًا.
وقفت أعينهم أمامه، عاجزة عن إعادة التشغيل. لم يكن مجرد شاحن. لم يكن قطعة من الجهاز. بل كان الأصل. كان مصدر الطاقة الذي أحب بصمت، وأنفق بصمت، وانطفأ بصمت.
ولأن الزمن لا يعود، لم تكن العودة التي تمنوها. لم تكن لحظة ندم تصحح ما فاتهم، بل كانت وقفة أمام بقايا ما لا يُعوّض.
بقي هناك، لا ينبض... كما لو أن غيابه كان أكثر حضورًا من كل شيء كان حوله.