السبت 19 أبريل 2025 01:34 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

دكتور علاء الحمزاوى يكتب : إذا استنار العقل بالعلم أنار الدنيا

دكتور علاء الحمزاوى
دكتور علاء الحمزاوى

ــ ميَّـز الله الإنسان الإنسان بالعقل تكريما وتفضيلا على بعض خلقه، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} و{فَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، ولم يعط الله العقل لأناس دون غيرهم؛ ليكونوا تابعين لهم، إنما منح العقل للجميع للتشارك في التفكير واتخاذ القرار؛ لأن التبعية العمياء تؤدي إلى الركود الفكري وقتل التجديد والإبداع والابتكار، وقد تؤدي إلى الضلال، وقد حـذَّر الإسلام من ذلك تحذيرا شديدا؛ قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، و{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ}، بل هـدَّد القرآن أصحاب الركود الفكري بالعذاب قائلا: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} فالرجس العذاب، ودعا الإسلام إلى إعمال العقل فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى}، و{إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ‏لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ}، ووضع الإسلام العقل في منزلة مساوية أو مقاربة للنقل، فسجل القرآن من مظاهر نـدم الكفار أن {قَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
ــ فلابد من إعمال العقل في فهم النقل، فلا يقتصر دورنا على الحفظ والتلقين؛ فذلك يضر بالإسلام والمسلمين، يقول ابن القيم: "ومَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ"، وفي ذات الوقت لا ينبغي أن نحتكم إلى العقل وحده فنطلق له العنان؛ فذلك يؤدي إلى الضلال والإضلال، إنما نجمع بين العقل والنقل شريطة أن يكون العقل صريحا أي نقيا من الشبهات والشهوات التي قد تُضِلُّه؛ فالعقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح، ولعل بعض الاختلافات بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية مردها أن المدنية الغربية ترى أن العقـل مطلق غير محدود قادر على تحقيق كل شيء، أما في الإسلام فالعقل وحده لا يصلح لهداية الإنسان إلى الحق والخير إذ يضل وينسى؛ فارتكزت الحضارة الإسلامية على النقل والعقل معا.
ــ ولأن العقل وحده لا يكفي لتحقيق عبادة الرب وعمارة الأرض شرَّفه الله بالعلم ليغذِّيه وينمِّيه وينير طريقه للتوحيد والتفكير والإبداع والبناء، فسُمِّي كتابُنَا قرآنا مصدرا للفعل (قرأ) لإبراز قيمة العلم في هداية الأمة وتشكيل وعيها وصناعة حضارتها، وكانت أول آيـة نزولا {اقْــرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} تأكيدا على ذلك، فمن معاني {اقْــرَأْ} طلب العلم؛ ومن ثم أوجب الإسلام طلب العلم على جميع المسلمين، ففي الحديث "طلبُ العِلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ"، وحـث النبي على ذلك فقال: "مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ"، ومدح الله العلماء فقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، والعلم المقصود هو كل علم نافع للإنسانية؛ لأن قيمة العلم في نفعه، فإن لم يكن نافعا للناس فهو شـر ينبغي أن نستعيذ منه كما استعاذ النبي فقال: "اللهمَّ إنِّي أعوذُ بك من قلْبٍ لا يخشعُ، ومن دعاءٍ لا يُسْمَعُ، ومن نفْسٍ لا تشبعُ، ومن علْمٍ لا ينفعُ، أعوذُ بك من هؤلاءِ الأرْبَعِ".
ــ ولا يمكن لأمّـة أن تُذكَر وتخلَّد حضارتها إلا بالعلم الذي مكَّن العلماء من التغلب على أمراض تفتك بالشعوب والأمم، بل مكَّنهم من معرفة الذرة والخلية ومكوناتهما ونظامهما، والذرة أصغر وحدة في الماديات، وذكرها القرآن في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، والخلية أصغر وحدة في الكائنات، وتضمنها حديث القرآن عن خلق الإنسان من نطفة، كما في قول الله: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً}، فالنطفة تحتوي على عدد كبير من الخلايا الحية، ويتركب كل عضوء في جسمنا من خلايا حية يقارب حجم كل واحدة منها جزءاً من ألف جزء من المليمتر المكعب، وهذا يدل على طلاقة القدرة الإلهية.
ــ بالعلم شيَّد المسلمون أعظم حضارة في التاريخ بشقيها الأخلاقي والمادي، وقد تجاوز تفكيرهم كل فكر سابق عليهم، فأحدثوا نقلة علمية تاريخية فجّروا خلالها ينابيع معرفية ضخمة في شتى العلوم، ومع كل ما حققه المسلمون وغيرهم من إنجازات حضارية عظيمة بفضل العلم فإنه يعد قليلا من كثير لم يتحقق؛ تصديقا لقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.