د، سحر حلمي تكتب عن : الجريئة جراهام والمرأة ال شهرزاد


إنها الحورية، الطيف، الأميرة، الزهرة
الجميلة، الرقيقة، الحالمة
تلك هي شخصيات وصفات المرأة البطلة في عروض الباليه الكلاسيكية والرومانسية
أنها الرؤية التي قدم بها الرجل المرأة على مسرح الباليه طوال الحقبة الرومانسية والكلاسيكية
350 عاما من المرأة ال شهرزاد.. والأميرة النائمة.. والفقيرة الجميلة الحالمة جيزيل
هؤلاء هن بطلات اهم الباليهات الرومانسية والكلاسيكية
ما بين بجعة مسحورة أو طيف لفتاه ماتت من الحب مقهورة أو فتاة صغيرة تحلم بأمير أو حتى أميرة نائمة لن ينقذها إلا أمير!
عالم خيالي لا يمت للواقع بأية صلة
وخصوصا في تلك الأزمنة ما بين أواخر القرن السادس عشر وحتى بدايات القرن العشرين وأعني هنا بداية تاريخ فن الباليه وليس تاريخ المرأة.
لأن حال المرأة لم يكن بهذا الجمال مطلقا
فهي لم تتمكن من الحصول على الكثير من حقوقها على مدار الحقب والعصور المتتالية في تاريخ البشرية.
فمنذ أواخر الستينات وطوال السبعينات وإلى بدايات الثمانينات من القرن العشرين والنضال كان مستمرا بين الحركات النسوية التي تطالب بتحسين ظروف العمل للمرأة والمساواة في الأجر وحقها في اتخاذ قرارها بمنع الحمل والإجهاض الى أن اجتاحت حركة تحرير المرأة وانتشرت بمختلف دول العالم وشهد عام 1971 أول تشكيل لمجموعة العمل من أجل تحرير المرأة بالنمسا. وكانت أهدافها المطالبة بحق المرأة في الحصول على التعليم والتوظيف في سوق العمل و تحسين أحوال الأمهات و التصدي لوقف العنف الجسدي ضد المرأة و محاربة تسليع المرأة و رفض وضعها كمواطن من الدرجة الثانية و أعادة تنظيم المجتمع ليغير صورة المرأة و دورها في المجتمع.
لذلك فن الطبيعي أن في عصر النهضة بأوروبا لم يكن هناك ما يسمي بحقوق المرأة
لا في الصحة ولا التعليم ولا العمل
فقد كانت المرأة مجرد شخصيات بمواصفات خيالية في عالم الرجل يحاول ان يعالج بها واقعه أو مجتمعه في ذلك الوقت وقد يكون ذلك هو الجزء الذي يتمنى أن يراه الرجل في المرأة على مر العصور المختلفة.
او بمعنى آخر ما كان يحتاج أن يراه فيها
واستمر الأمر على هذا الحال منذ ما قبل عصر النهضة وحتى منتصف القرن العشرين
ذلك الشكل الفني الخيالي للمرأة الحورية، والمرأة الطيف، والأميرة وال شهرزاد
إلى أن جاءت الأمريكية الجريئة مارتا جراهام التي ولدت عام 1894 وتوفيت عام 1991، والتي استطاعت أن تقتحم العالم الرجالي لفن التأليف والتصميم الحركي في تاريخ فن الباليه
فقدمت شكل وفكر ومفهوم أخر جديد للرقص وعالم الحركة في فن الباليه
وبالطبع قدمت المرأة أيضا من منطلق أخر مختلف على خشبة مسرح الباليه.
فلقد أخذت جراهام المرأة الى أفاق أخرى، لعالم جديد من الرقص بل الى مستقبل آخر من الرقص والدراما الحركية الراقصة، مختلف تماما عما سبق، عالم جديد وحديث من حيث اختيار الموضوعات والشخصيات والحركات الراقصة
أنه عالم الرقص الحديث. .
شكل جديد للمرأة يتسم بحرية التفكير وحرية التأليف والتصميم الحركي والإخراج المسرحي لتاريخ فن الباليه.
الرمزية في الديكور والتأليف الموسيقي بالحان لا يوجد بها نغمات.
وحركات راقصة ذات طابع الدرامي.
قدمت مارتا المرأة على مسرح الباليه بشكل مختلف تماما عما أعتاد عليه مصممين الباليه من قبل وكان أغلبهم من الرجال في ذلك الوقت
فبعد أن كانت الشخصيات النسائية في الباليهات يتم تأليفها وتصميمها وإخراجها كما يريد الرجل أن يقدمها بالصورة التي تناسب خياله. أصبحت المرأة تعبر بنفسها عن نفسها
منذ أن جاءت مارتا جراهام
فقدمتها من منظور مختلف تماما عن المنظور الرجالي الذي يحاكي خيال الرجل ويخالف واقع المرأة
فاختارت مواضيع تهم المرأة نفسها. مواضيع تعبر عن آلامها النفسية ومشاكلها الحقيقية وواقعها.. بل وتعبر حتى عن أفكارها وغرائزها عن شهواتها ونزواتها، عما يجيش في أعماق نفسها من مشاكل ومشاعر حزن عميق بسبب
فقد أم لأبنها.. او ألآم الوضع و ما يحدث للمرأة من تغيرات جسدية و نفسية أثناء الولادة كما في رقصة ( المندبة )
قدمت جراهام على مسرحها المرأة الخائنة والمرأة الغيورة والمرأة المنتقمة بل والمرأة المريضة نفسيا لحد الجنون
فبدل ان تقدمها في أجمل احوالها، قدمت معاناتها في الحياة والمجتمع من خلال تناولها للأساطير الإغريقية القديمة.
فقدمت عقدة أوديب و مشاعره الأبن تجاه أمه و عقدة اليكترا و مشاعر الأبنة تجاه والدها. قدمت المرأة المنتقمة الغيورة لدرجة الجنون في أسطورة ميديا،
اختارت المأساة اليونانية لسوفوكليس لتذهب لأقصى مدى من مأسي البشر على الأرض واهتمت بالمرأة في اختياراتها
استخدمت علم النفس الذي كان حديث الظهور في ذلك الوقت أوائل القرن العشرين.
لتقدم أبطال أعمالها بتحليل نفسي استطاعت من خلاله ان تجد حركات درامية راقصه تعبر بها عن الأفكار الدفينة في نفوس النساء بل في نفوس البشر من خلال الشخصيات التي تناولتها على مسرحها.
فخلقت عالم آخر بديل لعالم الخيال بالمرحلة الرومانسية والكلاسيكية في فن الباليه
موضوعات لم تكن تتراء على ذهن مصممي تلك المرحلة في عمر الفن من عمر البشرية
و بالتالي كان عليها أن تجد بالطبع حركات أخرى بديلة لحركات المدرسة الكلاسيكية لفن الباليه، فجاءت حركاتها مستمدة و مستلهمة من عصرها ألا وهو عصر علم النفس و فرويد ومدرسة التحليل النفسي. فنجد حركات الاهتزازات و التوتر العصبي و رعشة الخوف و الحركات الغريبة و تشنجات مرضى الأمراض النفسية . فلقد أدخلتها على رقصها ووظفتها في التعبير الدرامي عن أشد مشاعر الخوف والغضب فأظهرت ارتجافات وارتعاشات العضلات من شدة الخوف والضغط النفسي والقلق والألم. اخترعت حركات القبض والبسط للبطن، استخدمت الزحف على الأرض
إذن لا يوجد حركات طيران و لا مقاومة للجاذبية الأرضية و لا للحركات الأكروباتية . ولن نجد نعومة أنثوية مصطنعة كما هو الحال في الباليهات الكلاسيكية والرومانسية. بل حركات أرضية حركات بشر لا يتشبه بالطيور والنباتات والحشرات. لا طيف لموتى ولا حورية لحبيب. ولا أمير لينقذ أميرة مسحورة.
بل امرأه غيورة لحد الجنون تنتقم من زوجها الخائن بقتل أولادهم
كما هو الحال وشخصية ميديا في باليه (كهوف القلب)
أو أم تتألم لفقد أبناؤها، أو سيدة تعبر عن ألام الوضع في رقصة المندبة ، أو ابن يتزوج أمه في باليه ( رحلة ليلية ) المأخوذ عن مسرحية ( أوديب ملكا لسوفوكليس) ، و ابنة تهيم غراما بأبيها كما هو في عقدة اليكترا .. مواضيع وشخصيات صادمة قدمتها مرتا جراهام على مسرح الباليه.
صحيح استلهمتها من الأساطير اليونانية القديمة والمسرح الإغريقي، لكنها قصدت أن تعبر بها عن أمراض البشر النفسية في واقع نعيشه جميعا.
لم تهتم برفض الجمهور لتناولها الجديد، لم تلتفت لهجوم النقاد عليها، كما لم تخشى من رد فعل الجمهور في البداية على موضوعاتها الجريئة ورقصها الحديث وأعمالها الجديدة.
فضلت أن تقدم مشاكل الأنسان وأمراضه النفسية الموجودة في الواقع على أن تقدم قصص خيالية لشخصيات وهمية لا تمت للواقع بأي صلة، فعبرت عن النفوس الحائرة بصدق
قدمت الإنسان في أشد مشاعر الخوف والقلق، قدمته في إخفاقاته وعبرت عن غرائزه ومشاكله، أفكاره الدفينة في اللاشعور وسلوكه المريض النابع من اللاوعي.
تمردت على كل القواعد الكلاسيكية القديمة لعالم الرقص. كسرت القوالب الثابتة في عالم فن الباليه..
أصبحت رائدة من رواد التأليف و التصميم الحركي في عالم فن الرقص وتاريخ فن الباليه
تجرأت على 350 عاما من الرقص الكلاسيكي بقواعده التقليدية وقوالبه الثابتة
وبعد أن كان الرقص الكلاسيكي هو الشكل السائد الوحيد الموجود على خشبة مسرح الباليه في العالم
أصبح هناك شكل آخر جديد هو الرقص الحديث المتمرد على الرقص الكلاسيكي
والذي وجد لنفسه مكان بجواره متجاوزا كل هذه السنين.
وضعت مارتا جراهام قواعدها الحركية ( تكنيكها ) الخاص بها .
أنشأت مدرستها و فرقتها الخاصة دون تمويل حكومي و التي مازالت موجودة حتى الأن .
والأهم أنها فتحت الباب بجرأتها للعديد من بعدها للتجريء على الاختلاف والتحديث والتجديد في عالم الرقص، التجريء على التميز والتنوع.
فتشجع تلاميذها على الانفصال عنها وأنشئوا أساليب أخرى جديدة ومختلفة عن أسلوبها الفني والفكري والتقني. منهم من وضع تكنيك وقواعد حركية خاصة به ومنهم من وجد أسلوب رقص وتأليف حركي جديد مبتكر.
فتعددت الأساليب من بعدها واختلفت المذاهب والرؤى الفكرية والفنية وتنوع فن الرقص وتطور علم الحركة الراقصة وتشعبت أساليب التصميم والإخراج في فن التأليف الحركي على مسرح الباليه وأصبح كل مصمم له أسلوبه الخاص به
وتغيرت نظرة الرجل للمرأة في فن الباليه. بل وتغيرت نظرة المرأة لنفسها ولعالمها وحقوقها الجديدة المكتسبة واتسعت أحلام المرأة وتطلعاتها نحو مستقبل أكبر
فكانت مارتا جراهام أول راقصة تمثل بلدها في الخارج كسفيرة ثقافية، وأول راقصة تتسلم أعلى جائزة مدنية في الولايات المتحدة الأمريكية وهي (وسام الحرية) واشتهرت في أوروبا ومنحها إمبراطورا اليابان التاج النفيس
وتقول مارتا جراهام " لقد قضيت كل حياتي مع الرقص كراقصة فالرقص يسمح لك بأن تستفيد من جميع قدراتك ومهاراتك لأقصى حد ممكن فهو في بعض الأحيان ليس بالأمر الممتع. وفي أحيان أخرى يكون مخيف إلا أنه مع ذلك أمر حتمي لا مفر منه ".
فلقد استطاعت جراهام أن تؤلف حركات لرقص كوني لا عرقي ولا شعبي ولا قومي
إنما قدمت الأنسان بحالاته المختلفة . بألآمه وأفكاره بمشاعره. بذنوبه وجنونه ومعاناته بأخطائه وأمراضه النفسية – قدمت خباياه ورغباته العميقة وغرائزه الدفينة
فلقد بدأت مارتا جراهام بمشاعر ومشاكل المرأة وانتهت بمشاعر ومشاكل الأنسان بشكل عام ووجدت لغة حركية أخرى جديدة تستطيع ان تعبر بها عن الأنسان في عصرها ومواضيع درامية عبرت بها عن الإنسانية والأنسان فجاءت حركاتها بشرية تتماشى مع الأنسان في كل مكان فاتسمت بالصبغة العالمية
فأصبحت جراهام ليست فقط رائدة في فنها بل ملهمة لجيلها وللأجيال من بعدها.
أنه الصدق في الفن
وصدق الفنان في التعبير بصدق
عما يشعر به الأنسان ....