د.أحمد يوسف يكتب : المطففون


إن لم نجد الدين في المدرسة، وفي المزرعة، والمتجر، والعيادات والمستشفيات، وفي الأسواق حيث البيع والشراء، وفي التقاضي والمنازعات، وفي كل منشط ومكره، فليس في حياتنا دين حتى إن وجدناه في المساجد ولم نأخذه معنا حيث نكون، فقد تخلينا عنه وتخلى عنا. فالدين لا يتجلى إلا حيث يكون الإنسان في مواجهة الإنسان. ولم يرسل الله رسله إلا من أجل الإنسان واستقامة الحياة على الأرض. إن المقصد الأسمى للدين هو الفرح. فرح الإنسان بكونه إنسانا، وفرح بكونه حيا على وجه الأرض، وفرح بكونه يحيا مع الآخرين المتفقين معه والمختلفين عنه. ومن مداخل الفرح والسرور الإقرار بالتنوع والتعدد والاختلاف والتعايش معه وقبوله. لذلك أعجب ممن لا يفرحون بالحياة ولا يصنعون الفرح فيها ويحرصون على لصق كل قبيح بها، ويفكرون في الموت وما بعده وهم لم يحسنوا التفكير في الحياة والفرح بها. ولو أحسنوا صنع الحياة، لجاء الموت على شاكلتها جميلا بشوشا ناعما وليس كما يصوره أعداء الفرح بالحياة غضوبا عابسا يتحين اللحظة للفتك بمن يستقبله من الناس.
وليس عبثا أن يحدثنا القرآن عن الموت والحياة حديثا متوازنا (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) وأن تكون إحدى سوره مسماة ب "المطففين" وأن تتضمن مادة هذا الفعل" طف، يطف والمزيد منها " معني الزيادة والنقص والنظر إلى الناس من منظور مختل سواء أكان هذا المنظور إليه مادة محسوسة أو غير محسوسة. والعلاقة بين الموت والحياة والتطفيف علاقة مشاهدة ملموسة حتى وإن غابت عن الحس والوجدان. فالتطفيف سلوك بشري منطلقه الأثرة والاستخفاف بالناس وهو ذو صلة قوية بالنفاق الذي يتزين بالقول والفعل ويخفي وراءهما شرا مستطيرا. فمن يطفف يحرص على جلب ما ينفعه بخداع الناس وببخسهم حقوقهم. ولأن البيع والشراء هو جوهر النشاط البشري على الأرض من حيث الإنتاج والمكسب والخسارة، ومن حيث التضحية بالنفس فداء الوطن، ومن حيث العطاء مقابل الثناء والذكر الحسن، ومن حيث الفعل ورد الفعل وإبرام المعاهدات في السلم والحرب، فقد حرصت الآيات الستة الأولى من السورة على تجلية فعل التطفيف حيث جعلته مقرونا بالكيل والميزان لتنطلق من هذا الاقتران بعد ذلك كل الدلالات التي يمكن فهمها في ضوء فهمنا للحياة. ومن هذا الفهم الإطراء في غير موضعه ابتغاء استمالة المطري لجلب منفعة عاجلة أو آجلة، ومنه الحكم على الأعمال لا بما فيها ولكن بما يجلبه هذا الحكم من منفعة والسكوت عن العيوب وتبريرها، ومنه غمط الحق وإظهار الباطل انطلاقا من القدرة الخارقة على الحجاج والتخييل، ومنه الصمت حيث ينبغي الكلام، والكلام حيث ينبغي الصمت بوصفه موقفا احتجاجيا. ومنه مناوأة الأوطان والسعي في خرابها رغبة في نفع خاص يتحقق على أجساد الأبرياء من الناس. ومنه لضيق المقام المودة المغشوشة ولسان السوء. لذلك جاءت بداية السورة "ويل للمطففين" بالعقاب تبيينا لهول هذه الأفعال والإشارة إلى العدل" والسماء رفعها ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان". من هنا تتضح العلاقة بين الفرح بالحياة والفرح بالموت، أو كره الحياة وكره الموت بمقدار ما نراجع أنفسنا هل كنا مطففين وكيف نعدل عن التطفيف لنجد الدين قد خرج من المسجد إلى الأسواق والمدارس والمكاتب وكل مناشط الحياة.