دكتور علاء الحمزاوى يكتب : الأرض المبــــاركـة:


ــ المباركة صفة من البركة، وقد وردت بمشتقاتها في القرآن إحدى وثلاثين مرة بمعان كثيرة وصفا لعـدة أشياء، فمن معانيها العظمة والعلو وجاءت وصفا لله؛ قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} أي تعالى وتعاظم، ومن معانيها الهداية وجاءت وصفا للقرآن؛ قال الله: {وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي هادٍ لكم، ومن معانيها الأمن والسلام وجاءت وصفا لمكان نوح بعد الطوفان؛ قال: {ربِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} أي منزلا آمنا سالما، ومن معانيها النفع والإفادة؛ قال عيسى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} أي نافعا للناس، ومن معانيها الطهارة وصفا لماء السحاب؛ قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا} أي ماء طهورا، ومن معانيها الخير الكثير وصفا لليلة القدر والبيت الحرام ورزق المؤمنين؛ قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} و{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا}، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فالبركة هنا بمعنى الخير الكثير، ومن معانيها النعمة كما في الدعاء "اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ" أي أدِمْ عليهم النِّعَـم.
ــ وهذه المعاني تحققت في سيناء؛ فقد نص القرآن على أنها أرض مباركة؛ قال ربنا: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} أي لمَّا اقترب موسى من النار التي رآها سمع نداء من جانب الوادي في تلك البقعة بسيناء، وكلمة {الأيمن} من اليمين مقابل الشمال أو من اليُمْن بمعنى البركة، وهذا يعني أن الوادي مبارك في منطقة مباركة، وبالتالي فسيناء كلها مباركة، ومما يؤكد ذلك أن الله أقسَم بها مرتين فقال تعالى: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ}، {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ}، فـ{سينين} كلمة أعجمية يراد بها سيناء، والقسَم بالطور يعني أنه مكان مبارك.
ــ وسيناء أرض مباركة؛ لأنها أرض الأنبياء؛ فقد شرَّفها إبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وعيسى ورسول الله الذي صلَّى في جبل الطور كما في حديث النسائي، وفي العريش بسيناء فصلت العير الواردة في قوله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}، وفي رأس محمد بسيناء مجمع البحرين الوارد في قوله تعالى: {وإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغ َمَجْمَعَ الْبَحْرَيْن ِأَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}، وهناك التقى موسى الخضر.
ــ سيناء أرض مباركة؛ لأنها مكان كلام الله لموسى، قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا}، وقد كلَّمه الله حقيقة بصوت سمعه موسى ولغة فهمها؛ لأن الفعل {كَلَّمَ} مؤكَّد بالمصدر {تَكْلِيمًا}، والتأكيد لا يجتمع مع المجاز، فدل ذلك على أن الله كلَّمه حقيقة، لكن ماذا قال الله لموسى؟ سجل القرآن كلام الله لموسى في قوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي...}، وطوى اسم الوادي المقدس، والأمر بخلع النعل يدل على أنه مكان طاهر، والطهارة من معاني البركة.
ــ سيناء أرض مباركة؛ لأن الله تجلَّى للجبل فيها، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْك قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}، وقوله: {لن تراني} نفي للرؤية في الدنيا؛ لأن تكوينه البشري لا يتحمل ذلك، وإنما في الجنة يرى المؤمنون ربهم وفقا لقوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}، حيث يتغيَّر تكوينهم الخلْقي، ومعنى {تجلَّى} ظهر نوره على الوجه اللائق بجلاله وعظمته، و{دكّـا} من الفعل (دكَّ) بمعنى هـدَّم وفتَّت، وخـرَّ صعقا: سقط مغشيا عليه، وتعبير {أول المؤمنين} لا يعني أن موسى أولهم على الإطلاق، فقد سبقه مؤمنون كُثُر منذ آدم، إنما هو أول المؤمنين في قومه، وقد اختلف العلماء في الجبل، فقيل: هو جبل دكَّـه الله فغار في الأرض ولن يعود، وقيل: هو جبل الطور دكَّه الله ثم أعاده مرة أخرى، وهذا هو الأرجح؛ فالله قادر على ذلك.
ــ وسيناء أرض مباركة؛ لأن فيها شجرة مباركة هي شجرة الزيتون، قال الله: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ}، والزيتون غذاء غني بالمعادن والأحماض الدهنية الضرورية للجسم، يُعصَر زيتا فيُستخدم في الطعام والإضاءة؛ ومعنى (صبغ) أي يُغمَس فيه الخبز فيصطبغ بلونه، وشجرته مباركة أي مفيدة للناس لقوله تعالى: {كَأَنَّهَا كَوۡكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَٰرَكَةٍ زَيۡتُونَةٍ}، وفي الحديث "كُلُوا الزَّيْتَ وادَّهِنوا به؛ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ".
ــ سيناء أرض مباركة لأنها كانت مدخلا للفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص 20هـ، وأقام بها أول صلاة لعيد الأضحى في مصر، ومن سيناء انطلق الجيش المصري إلى الشام لتحقيق النصر على الصليبين في حطين 583هـ وعلى التتار في عين جالوت 658هـ، وفي سيناء حقق الجيش المصري أعظم نصر على العدو الغاصب إسرائيل 1973