الكاتب والناقد أحمد عبد الله إسماعيل يكتب : رواية الأقدام السوداء،


للمهندس الأديب محمد فايز بناء سردي متقن يشد القاريء، بما تحتويه من دمج للخطوط التاريخية والعلمية والاجتماعية في عمل أدبي متفرّد يعكس تنوعًا في الأنماط السردية، مستعرضا أسلوبًا جديدًا في طرح المواضيع الاجتماعية والفلسفية؛ إذ ينطلق الكاتب من فكرة مركبة تتداخل فيها قضايا الحب والدين والوطن والعمل؛ ليبني عالمًا يواجه فيه هذه المشاعر الإنسانية الصادقة صراعات مع الدجل والفساد، وتتميز الرواية بقدرتها على دمج الخطوط التاريخية والعلمية والاجتماعية في بناء سردي متقن يشد القارئ.
الغلاف والعنوان
في الرواية يعكسان بشكل مميز الأجواء والرمزية المرتبطة بالقصة:
عنوان الرواية "الأقدام السوداء" مع العنوان الفرعي "تقاطعات العشق والدجل" يحملان في طيَّاتهما دلالات عميقة تعكس التناقضات والصراعات الداخلية التي يواجهها الأبطال؛ فمصطلح "الأقدام السوداء" يشير إلى المستوطنين الفرنسيين في الجزائر خلال فترة الاستعمار، مما يضفي بُعدًا تاريخيًا على الرواية. أما "تقاطعات العشق والدجل"، فيعكس هذا العنوان الفرعي التوتر بين الحب الحقيقي والزيف، بين النقاء والدجل، مما يضفي بُعدًا فلسفيًا نقديًا يتجاوز البنية السردية التقليدية.
تسمية الأقدام السوداء مع إدراج الترجمة الحرفية للعنوان باللغة الفرنسية: Piéd-noir) يؤكدان على قصدية الكاتب لإيصال رسالة معينة من وراء هذا العنوان.
حسب القاموس الإنجليزي لأوكسفورد فمصطلح الأقدام السوداء يعني: هي نعت لكل أوروبي الأصل (خاصة الفرنسيون منهم) عاش في الجزائر أثناء فترة الحكم الفرنسي لها ورحل عنها عند استقلالها سنة 1962، ويتفق معه قاموس لوروبير الذي يضيف أن المصطلح ظهر حوالي سنة 1955، في حين أن قاموس لاروس لا يقصر الأمر على الجزائر بل كل شمال أفريقيا الخاضع للحكم الفرنسي (أي بإضافة المغرب وتونس).
أما عن صفة الأقدام السوداء، فإحدى النظريات ترجع الأمر إلى سواد الأحذية التي كان يرتديها الجنود الفرنسيون بالمقارنة مع أقدام الجزائريين أصحاب الأرض. في حين أن نظرية أخرى ترجع ذلك إلى وسخ ملابسهم أو عصرهم لعناقيد العنب بالأرجل لإنتاج النبيذ.
يُظهر الغلاف - بشكل دقيق - الأجواء الرمزية التي تدور حول الرواية، مع خلفية تُمثل رمال الصحراء، وهي مكان يتم فيه الكشف عن المعركة النفسية الوجودية التي يخوضها البطل "حسن" ضد القوى الشريرة. الدوامات السوداء التي تظهر على الغلاف تُمثل الاضطراب والصراع المستمر في البحث عن الحقيقة ومواجهة التحديات، مما يسلط الضوء على صراع البطل ضد تلك القوى.
يحمل العنوان بُعدين دلاليين يتداخلان معًا في مضمون الرواية؛ فالأقدام السوداء تشير إلى جماعة تاريخية معروفة تمثل الشر، وتحمل سمة القسوة والمكر، وهذه الجماعة تكون في صراع مع البطل.
أما عمق الحفر فيرمز إلى العملية التي يتم من خلالها استخراج "النفط الأسود"، الذي هو هدف الرواية، مما يبرز السعي لتحقيق الأهداف الكبرى والصراع للوصول إليها. العنوان يعبّر عن هذا الصراع المزدوج بين القوى الشريرة التي تمثل "الأقدام السوداء"، وبين السعي لاستخراج شيء نفيس، كالنفط، من أعماق الأرض.
الإهداء
يحمل إهداء المؤلف محمد فايز حجازي لروايته "الأقدام السوداء" العديد من اللمحات الفنية والأدبية والجمالية حيث نلاحظ في الإهداء استخدامه لصور بلاغية تنطوي على شعور بالانتماء العميق للمكان والزمان. فتعبيره "إلى كل قبّة ومئذنة تعلّق بها قلبي، ومازال" يوحي بارتباط روحاني وعاطفي بالأماكن التي تحمل ذاكرة وذكريات المؤلف، وهي مكونات مشهدية مملوءة بالرمزية. القبة والمئذنة ترتبطان بالروحانيات والإيمان، مما يعكس أبعاداً دينية وروحية في الرواية.
يبرز الإهداء بُعداً زمانياً ومكانياً واضحاً من خلال الإشارة إلى "القاهرة القديمة"، و"أيام الطفولة النقية في السيدة وسيدنا الحسين"، يمكن للقارئ أن يشعر بنكهة الماضي والذكريات الطفولية التي تركت أثراً في نفس الكاتب. هذه الأماكن تعد جزءاً من هوية المؤلف وتُعبّر عن أبعاد الثقافة والتراث المصري.
نلمح تأثر الكاتب بالعطور والذكريات في قول "إلى عطر الأماكن التي فتحتُ عيني عليها"، نجد صورة حسية قوية تستحضر العطور كرمزية للمكان الذي يحمل عبيراً خاصاً يرتبط بالذكريات الشخصية. العطر هنا ليس مجرد رائحة، بل هو استحضار للمكان بأبعاده الثقافية والوجدانية.
يُظهر الإهداء نوعاً من الحنين إلى الوطن والتعلق بالمكان، كما يتضح بشكل كبير في عبارة "إلى بلادي المحروسة". وهذه العبارة تحمل معنى وطنية قوية، حيث يرتبط المكان بالحماية والعناية، ما يضفي على الإهداء لمسة من الفخر والانتماء.
يتميز الأسلوب الأدبي في الإهداء بالبساطة والصدق العاطفي؛ فلا توجد تعقيدات لغوية، بل هو أسلوب سلس ومعبر، يتوجه مباشرة إلى مشاعر القارئ. من خلال هذا الأسلوب، يجعل الكاتب القارئ يشعر بالارتباط بالمكان والعالم الذي يصفه، مما يعزز قوة الانطباع الأول الذي يتركه الإهداء.
تتسم اختيارات حجازي للأماكن والرموز في الإهداء بالجمالية الرمزية؛ فالأماكن مثل "السيدة" و"سيدنا الحسين" تحوي دلالات ثقافية ودينية، مما يعزز قيمة الإهداء ويجعله أكثر عمقاً.
إهداء الأديب محمد فايز حجازي هو مفتاح لفهم الرواية وتوغل في عوالمها؛ إذ يعكس ارتباطاً شديداً بالأماكن، والزمان، والذاكرة الشخصية، ويُعبر عن شغف المؤلف بعناصر مكانية ورمزية عميقة في الرواية.
تعتبر الجزائر محورًا رئيساً في رواية الأقدام السوداء، حيث يبرز الأديب محمد فايز حجازي من خلال شخصياته الجزائرية روح المقاومة والثبات أمام الاحتلال. تُجسد شخصية "العم يزيد" الحكمة البسيطة والتعامل بالفطرة السليمة، مما يعكس أهمية التفكر في القيم الإنسانية البسيطة كحلول للتعامل مع الأزمات. تؤكد هذه الرمزية في "العم يزيد" على ضرورة العودة إلى المبادئ الأخلاقية الأصيلة من أجل تجاوز الفتن والصراعات التي تزرعها القوى الاستعمارية.