الإثنين 28 أبريل 2025 03:31 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

المستشار بهاء المري رئيس محكمة الاستئناف يكتب : اللغةِ العـربيةِ في أروقـةِ القَضـاء

المستشار بهاء المري
المستشار بهاء المري

إن الحديث عن (اللغة العربية في أروقة القضاء) لَيُصيب المتحدث بالحيرة، فعَن أي ‏ناحيةٍ من نواحي الموضوعِ يتحدث ونواحيهِ - كما يوحِي عنوانه - ليس إلى حَصـرها من ‏سبيلْ، ولكني آثرتُ اختيار واحدة من الزوايا التي تَتجَلى منها هذه اللغة في هذا المرفق الهام ‏هذه الزاويةُ هي (لغةُ القانون) وأقصدُ بلغةِ القانونِ هُنا (لغةَ الأحكامِ والمرافعاتْ) فكلاهُما ‏أساسُ هذا الفنْ. فَنِ (اللغةِ العربيةِ في أروقةِ القضاء).‏

وإذا كانت اللغةُ لازمةً لكلِ عملٍ يَتصلُ بالتعبيرِ عن الأفكارِ أو نقل الآراءْ ‏فإنها ألزمُ بالنسبةِ للعملِ القانونيِ بوجهٍ عامْ، والعملِ القضائيِ بوجهٍ خاص. فالعملُ ‏القضائيُّ نِصفهُ قانون، ونصفهُ لغة. والأفكارُ القانونيةُ تَظلُ حبيسةَ الذهنِ إلى أن تنتقلَ ‏إلى السَامعِ أو القارئِ عن طريقِ اللغة.

ولستُ مبالغًا إنْ قُلتُ: إنَّ رجالَ القضاءِ لا يَتمايَزونَ فيما بينَهم بالعلمِ القانونيِّ ‏فحَسْب، فالثقافةُ القانونيةُ مُفتَرضةٌ فيهم، وافرةٌ لديهم، وأمَّا الثقافةُ اللغويةُ فمقصُورةٌ ‏على البعض، هذا البعضُ هو الذي يجمعُ بين الفِكرِ القانونيِّ وبينَ حُسنِ التعبيرِ ‏اللُغوي عنه.

نحن لا نَطلبُ من رجالِ القضاءِ أن يكونوا عُلماءَ مُبرِّزينَ في اللغة، وإنما ‏حسبُهم أن يكونَ لديهم قَدرٌ ولو بسيطٌ من الثقافةِ اللُغوية، يُمَكِنُهم من أن يكتُبوا ‏كتابةً صحيحة. وأنْ يقرأَوا قراءةً صحيحة. وأن ينطِقُوا أيضًا نُطقًا صحيحًا فصيحًا، ‏وأنْ يكونَ في مَكتباتهم إلى جانبِ كُتبِهم القانونيةِ العديدةْ كتابٌ في قواعدِ اللغة.

‏ ‏ وإذا تحدثنا عن "اللغةِ العربيةِ في أروقةِ القضاءِ" استحالَ علينا أن نَقصُـرَ ‏البحثَ على (الكلامِ) نحوِهِ وصَرفِهِ وباقي صفاتِه الُلغوية. ولكن علينا أن ننظرَ في هذه ‏اللغةِ من حيثُ الأسلوبُ واختيارُ اللفظِ وترتيبُ الكلامِ ومراعاةُ المناسبة. أي "من ‏حيثُ قانونُ اللغة". ‏

بل إنَّ الموضوعَ ذو شِقَين بطبعِه: ذلكَ أنَّ اللغةَ والقاضي جالسٌ للقضاءِ غيرُها ‏والمحامي أو مُمثلُ النيابةِ العامةِ قائمٌ للدفاع.

فالمترافعُ يُخاطبُ مَشاعرَ القُضاةِ وعُقولَهم. يُخاطبُ مَشاعرَهم حين يَتناولُ ‏أدبياتِ الدعوي، مثلَ جَسامةِ الجريمةِ وخَطرِها على المجتمع. وهو في هذا عليه أن ‏يَختارَ العبارةَ الرَّنانةَ التي تَبعثُ الحماسةَ، وتَـهُزُ المشاعرَ، وتُؤثِّـرُ في نفوسِ السامعين. ‏أمَّا في سَردِهِ للأدلةِ وذِكرِ الجانب القانونيّ، فهو يُخاطبُ عقولَ القُضاةِ وهو في هذا ‏مَنوطٌ بهِ أن يَصطنعَ الأسلوبَ الهادئَ المتزنَ الخاليَ من عباراتِ الحماسةِ لإقناعِ العقلِ ‏بالدليل. وأَّمَّا لغةُ الأحكامِ فلابُدَّ فيها من الوضوحِ والإيجازِ والتركيزْ، والحقيقةُ أنَّ ‏البلاغةَ إنْ هيَ إلا الإيجازُ.

لقد طوَّرَ رجالُ القانونِ لغةَ الأحكامِ القضائيةِ إلى العربيةِ الفُصحَى. فقد ‏كانتِ الأحكامُ عند بَدءِ إنشاءِ المحاكمِ سنةَ اثنتَينِ وثمانينَ وثمانمِـائةٍ وألف - ميلادية - ‏تُكتَبُ بلغةٍ يَصعبُ أن يُقالَ فيها إنها لغةٌ عربية. كانت خليطًا من كلماتٍ تركيةٍ وأخرى ‏عاميَّة. ويكفي أن نقرأَ في أحكامِ ذلك العهدِ عباراتٍ مثل: و(من ذلك يَنفهمُ ‏للمحكمة) أو: (ومن حيثُ ليس للمتهمِ شُهود) أو (وتبيَن من سُبُوقِ المخاطبةِ) وغيرُ ‏ذلكَ من عبارات. ‏

ونسوقُ على سبيلِ المثالِ حيثيةً من حُكمٍ لمحكمةِ استئنافِ القاهرةِ في سنة ‏سبعٍ وثمانينَ وثَمانمِـائةٍ وألف في قضيةِ تعويضٍ عن إصابةِ عمَل.

تقول: (ومن حيثُ ‏‏(أنَّ) حالةَ المَرضِ الذي اعترَى المدعي لا يمكنُ شِفاه، بعينهِ اليُمنى (غَطاطَة) لا يُمكنُ ‏معالجتُها لاستحصالهِ على كَميةٍ من البَصَـر، وأنَّ عِلتَهُ من (الجسِيمةِ) بحيثُ لا يمكنُ ‏أشغالُهُ بالميري). شِفاه: يقصدُ شفاءَه. غَطاطة: يقصدُ سَحابة أو غَمامَة. الجسيمةُ: ‏يقصدُ الجسامة. أشغالُه بالميري: يقصدُ اشتغالُه بالحكومة. ‏

بل إنني أُؤكدُ بعد تَنقيبٍ واستقراءٍ وتَـمَعُنٍ في تُراثنا القضائيْ منذُ حادِثةِ ‏دُنشواي سنةَ سِتٍ وتِسعِمِـائِةٍ وألف حتى الآن أنَّ لغةَ المرافعاتِ والأحكامِ قد صَلُبَ ‏عُودُها وبلغَت أشُدَها إلى حدٍ يَشهدُ لمِصـرَ بالتفوقِ البعيد. وأُؤكدُ أيضًا أنها استطاعَت ‏أن تُضيفَ نوعًا أدبيًا جديدًا يُزاحمُ الأنواعَ الأدبيةَ المعروفةَ وهو ما يُعرفُ الآنَ ‏‏(بالأدب القضائيْ). ‏

ولا يُنكرُ أحدٌ ما للغةِ العربيةِ من مُتطلَباتٍ: فإذا كنتَ كاتبًا أو أُستاذًا في جامعةٍ ‏أو قاضيًا، أو محاميًا، أو مهندسًا، أو طبيبًا، لا تكادُ تُذكَـرُ أمامَكَ اللغةْ حتى تتجهَ ‏بفِكركَ إلى مُختَلفِ الصعوباتِ التي تُعانيها إذا طُلِبَ منكَ أن تَكتبَ أو أن تُحاضِرَ في ‏فَرعِكَ الخاص باللغةِ الفصحى. ‏

قد يكونُ سهلًا للمُتكلِمِ أو الكاتبِ باللغةِ العربيةْ أن يقولَ شِعرًا يَحتذِي فيه ‏المتنبي، أو يَكتُبَ نَثرًا يَنسِجُ فيه على مِنوالِ عبد الحميد الكاتب أو ابن المقفَّع. أمَّا أن ‏يَعرضَ في قولِهِ أو يكتُبَ بقلمِهِ شيئًا من القانونْ فهو أعزلُ إلا من عزيمةٍ تَبعثُها ‏الصِّعابْ. فقيرٌ إلا من عناصرِ الثروةِ المخبوءةِ في لغتِنا المجيدةِ التي تتطلبُ صبرًا ‏ومُثابرةً في استكشافِها واستعمالِها. ‏

إنَّ لغتَنا العربيةَ غنيةٌ غايةَ الغِنَى بأسمائِها وأفعالِها ونُعوتِها، ولكنَّ هذه الثروةَ لم ‏تُجمَعْ للزينةِ اللفظيةْ، ولم تُدَّخَر في بُطونِ المعاجمِ لكي يَستقيمَ بها الرَّوِيُ وتَنضبطَ، ‏القافيةْ ويَحسُنَ السَجعْ. وإنما ليكونَ منها وسائلُ لأداءِ مَعانٍ مختلفةٍ وإنْ تقاربَتْ، ‏وأولُ واجبٍ على الكاتبِ أن يَستعملَ كُـلَّ لفظٍ فيما أُعِدَّ له من الأصلْ. ‏

وفي تاريخِ القضاءِ المِصـريِّ رجالٌ بلغوا القِمةَ في التَمكُنِ من اللغةِ العربيةِ (في ‏أروقةِ القضاء) وفي قوةِ الأسلوبِ وكمالِهِ وسلامتِهْ. من هؤلاءِ: عبد العزيز باشا فهمي ‏رئيسُ محكمةِ النقضِ وقاضي القضاةِ في الثلاثينياتِ من القرنِ الماضي، وثاني نقيبٍ ‏للمحامينَ بعدَ إبراهيم الهلباوي بك. ومنهم كذلكَ الدكتور السنهوري. ومصطفى ‏مَرعي عملاقِ القضاءِ والمحاماة. ‏
هؤلاء الرجالُ وغيرُهم استطاعوا بفضلِ تَـمكُنِهم من لغَتِهم وعِلمِهم ‏بدقائِقها، أن يُنشِئوا ما نستطيعُ تَسميتَهُ (بأدب القانونِ أو الأدبِ القضائيْ). فكان ‏إبداعُهم على نحو ما سَنرى من بعض الأمثلة. ‏
فهذا هو أحمد لطفي السيد المحامي: كانت لغتُهُ مرآةً مصقولةً لفِكرهِ الرائقْ. ‏ألفاظُهُ سَهلةٌ مُـختارةٌ بدقة. وجُـمَلُهُ على قَدرِ حاجة الكلامْ. لا تستطيعُ حذفَ كلمةٍ ‏منها مَخافةَ أن يَختلَّ المعنى وتضيعَ الفائدة. اُنظُر إليه يترافعُ عن إبراهيم الورداني قاتل ‏بطرس غالي باشا رئيس الوزراء سنة عشـرٍ وتِسعِمِـائةٍ وألف في أولِ قضيةِ اغتيالٍ ‏سياسيٍ في العصـرِ الحديثْ. اُنظر كيف يَروي وقائِعَها التي جاوزتِ الألفَ صفحةٍ في ‏بَساطةٍ وسُهولةٍ تَوطِئةً لبحثِـهِ القانوني. وكيف يُوردُ الكلامَ على قَدر المعنى المطلوب. ‏يقول: ‏

‏"نزلَ رئيسُ الوَزارةِ المصـريةِ يومَ الحادثِ من ديوانهِ يُحيطُ به كعادتهِ رجالُ ‏الحكومةْ. حتى بَلغوا به سُلَّم نِظارة الحقانيةْ. ولم يكَد يُودِّعُ مُشيعيهِ حتى فاجأهُ هذا ‏الفَتَي؛ فأفرغَ فيه عِدةَ رَصاصاتٍ طرَحتهُ على الأرضِ يتخبطُ في دمِه. أطلقها من ‏مُسدسٍ كانت تحملهُ يَدٌ لم تخُنها قُواها. يُقلِّبُهُ بقلبٍ كأنه قُـدَّ من الحديد. فأنفذَ حَشوَهُ ‏فيه. ولكن مع الأسفْ لم يكن حولَ الفقيدِ يَدُ شَهمٍ مُخلصٍ تُـنقذُ القتيلَ ولذلك ‏وجَدَت رَصاصاتُ ذلكَ الفتى سبيلًا إلى جسم رئيس الوَزارة". ‏

هذه هي القضية. أرأيتَ سِحرَ (اللغةِ العربيةِ في أروقة القضاء). وكيف أنَّ لغةَ ‏القضاءِ مُبهرة.

ثم استمِع إليهِ وهو يختتمُ المرافعةَ ذاتَها بتوجيهِ الخِطابِ إلى المتهمْ، كيف يُطلقُ ‏العَنانَ للعاطفةِ دون أن يَختلَّ ميزانُ أسلوبِه السَهلِ الممتنعْ:‏
‏"لقد هِـمتَ بحُبِ بلادكَ حتى أنساكَ ذلك الهُيامُ كلَّ شيءٍ حولَكْ. أنساكَ ‏واجبًا مقدسًا هو الرأفةُ بأختِكَ الصغيرةْ. وأُمِّكَ الحزينةْ. فتركتَهما تَبكيانِ هذا الشبابَ ‏الغَضْ. تركتَهما تَتقلبانِ على جَمر الغَضَا. تركتَهما تُقلبانِ الطرفَ حولهما فلا تَجدانِ غيرَ ‏منزلٍ مُقفرٍ غابَ عنه عائِلُهْ. تركتَهما على ألا تعودَ إليهما وأنتَ تعلمُ أنهما لا تُطيقانِ ‏صبرًا على فِراقِكَ لحظةً واحدةْ. فأنتَ أملُهما ورجاؤهما.

دفَعكَ حبُ بلادكَ إلى نسيانِ هذا الواجبْ. وحجَبَ عنكَ كلَّ شيءٍ غيرَ ‏وطنِكَ وأُمَّتِكْ. فلم تُفكِّر في تلك الوالدةِ البائسةْ. وهذه الزَهرةِ اليانعة. ولا فيما ‏سَينزلُ بهما من الحزنِ والشقاءِ بسببِ ما أقدمْتَ عليه. ‏
اِعلَم أيها الشابُ أنه إذا تَشدَدَ معكَ قُضاتُكَ ولا إخَالُهم إلا راحميكْ. فذلكَ ‏لأنهم خَدَمَةُ القانون. وهذا هو السلاحُ المسلولُ في يَدِ العَدالةِ والحريةْ. وإذا لم يُنصِفوكَ ‏ولا أظنُهم إلا مُنصفيكْ. فقد أنصفكَ ذلك العالَم الذي يَرى أنكَ لم تَرتكبْ ما ارتكبتَهُ ‏بُغيةَ الإجرامْ. ولكن باعتقادِ أنكَ تخدمُ بلادَكْ. وسواءٌ أَوافقَ اعتقادُكَ الحقيقةَ أَم ‏خالفَها، فتلكَ مَسألةٌ سَيحكُمْ التاريخُ فيها. وتَقَبَّلْ حُكمَ قُضاتِكَ باطمئنانٍ واذهب ‏إلى مَقرِّكَ بأمان". ‏
وفي مثالٍ آخرَ لإيرادِ الكلامِ على قَدر المعنَى المطلوب. نَجدُ في مذكرةٍ للأستاذ ‏سُليمان حافظ المحامي - مع ملاحظة أنَّ لغةَ الحديثِ في الدعاوَى المدنيةِ ليست لغةَ ‏عاطفةٍ ولا صُورٍ بلاغيةْ - قال يُحددُ موضوعَ بحثِهِ ويُبينُ ما سبَقْ من الرأيْ. وينتهي إلى ‏غَرضِهِ من الاستشهادِ بحكمِ محكمة النقض. يقول: "بَيعانِ أحدُهما من مُورِّثٍ، والثاني ‏من وارثٍ عن عينٍ بذاتها. وبَيعُ الوارثِ أسبقُ تسجيلًا. فأيُهما أحقُ بالتفضيل؟ وأي ‏المُشتريَينِ تملَّك؟ المشتري من المُورِّث أو المشتري من الوارث؟

قد يُقالُ إنَّ العقدَ الأسبقَ تَسجيلًا هو العقدُ الأحقُ بالتفضيلْ. غيرَ أنَّ نظريةَ ‏التفاضلِ بالتسجيلِ لا مَحِـلَّ لها ما لم يكن البَيعانِ صادرَين من مالكٍ واحد.

وقعَ خلافٌ فيما مَضَـى على هذه المسألة. فقال فريقٌ إنَّ شخصيةَ الوارثِ تُكمِّلُ ‏شخصيةَ المُورِّثِ أخذًا بقواعدِ القانون الفَرنسـي. وقال فريقٌ آخرُ إنها مُغايرةٌ لشخصيةِ ‏المُورِّثِ طبقا للشـريعةِ الإسلامية. وتزاحمَت الأحكامُ بين الرأيَينْ. وانقسمَ الفقهاءُ ‏المِصـريونَ حتى طُرحِتْ المسألةُ أمام محكمة النقضْ وأصدرت فيها حكمًا أخذ بالرأي ‏الثاني ووضَع نهايةً للخلاف السابق". ‏
‏ *** ‏
ولا نُغفِلُ ونحن بصَددِ ِ الحديث عن لغةِ المرافعاتِ في مصـرَ رجالَ النيابةِ ‏العامةْ. فقد ضربوا في فَنِ الكلامِ والأدبِ القضائِيْ بسَهمٍ. وارتفعوا بالمرافعاتِ الجنائية ‏إلى سماواتِ ِعلِّيين. ‏

اِسمَع ما قالهُ النائبُ العموميُ الأسبقُ عبد الخالق ثروت باشا في ‏قضيةِ اغتيالِ بطرس غالي باشا وأطلِق لذائِقتكَ العِنانَ بين أفانينِ القَول. ‏يقول: ‏

‏"إنَّ الوطنيةَ التي يدَّعي الورداني الدفاعَ عنها بهذا السلاحِ المسمومْ ‏لَبرَاءٌ من مثل هذا المُنكَرْ. إنَّ الوطنيةَ الصحيحةَ لا تَحِلُ في قلبٍ ملأتهُ مبادئُ ‏تَستحلُّ اغتيالَ النفسْ. إنَّ هذه المبادئَ مُقوِّضَةٌ لكل اجتماع. ‏

وماذا يكونُ حالُ أُمَّةٍ إذا كانت حياةُ أولي الأمرِ فيها رهينةَ حَكَمٍ مُتهوِّسٍ يَبيتُ ‏ليلَهُ فيضطَّربُ نومُهُ وتَكثُرُ هواجِسُهْ. فيُصبحُ صباحَهُ ويحملُ سلاحَهُ يَغشاهُم في دارِ ‏أعمالِهم فيُسقيهم كأسَ الـمَنون. ‏

وكيف يقومُ لنظامٍ قائمةٌ مع تلكَ المبادئْ الفاسدة. إنَّ مبادئَ كلِّ مُجتمعٍ ألاَّ ‏يَنالَ إنسانٌ جزاءً على عَملٍ مهما كان هذا الجزاءُ صغيرًا إلا على يَدِ قُضاةٍ اشتُرطت فيهم ‏ضَماناتٌ قويةٌ، وبعد أن يَتمكَّنَ من الدفاعِ عن نفسهِ حتى يُنتجَ الجزاءُ النتيجةَ الصالحةَ ‏التي وُضعَ لها.

ثم إذا سُئلَ في ذلك، تَبجَّحَ وقالَ إنما أخدُمُ وطني، تَـبًا لتلكَ المبادئِ وسُحقًا ‏لها. كيف يقومُ لنظامٍ قائمةٌ مع تلك المبادئِ الفاسدة. فإذا كان هذا هو الشأنَ في أقلِ ‏جَزاءٍ يَلحقُ بالنفسِ أو بالمالِ فما بالُكَ بجزاءٍ هو إزهاقُ الرُوحِ والحرمانُ من الحياة. ‏تلكَ مبادئُ لا وجودَ لمجتمعٍ إلا بها، ولا سعادةَ لأُمةٍ بدونها، فالطمأنينةُ على المالِ ‏والنفسِ هي أساسُ العُمران. ولكنَّ الورداني له مَذهبٌ آخر. فهو يضعُ نفسَهُ مَوضِعَ ‏الحَكَمِ على أعمالِ الرجال. فما ارتضاهُ منها كان هو النافع. وما لم يرتَضِهِ كان هو ‏الضَّارْ. ويريدُ أيضًا أن يكونَ القاضي الذي يُقدِّرُ الجزاءَ ثم يقضى بهِ من غير مُعقِّبْ ‏ولا رادّْ. ‏
ثم اسمع ما قالَهُ النائبُ العموميْ محمد لبيب عطية بك ضد محمد الفلال الذي ‏شرَعَ في قتلِ إسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء مُـختتمًا به مرافعتَهُ. يقول: ‏

‏"ذلكَ هو ولَعُ التَبطُلِ وغوايةُ الاستعظام. وهو داءٌ اجتماعيٌ وبيلٌ يُهَددُ ‏الحكوماتِ في كِيانِها ويَشُلُ النظامَ في أساسه. وإن لم يُؤخذ بيَدٍ عَسـراءَ استفحلَ ضَررُه ‏وعزَّ اتقاءُ شرِّه. ‏
اُرسُمُوا لأنفسِكُم بواسعِ خِبرتِكم ونافذِ بصيرتِكم حالَ البلادِ وقد أصبحَ كلُ ‏عظيمٍ فيها هَدفًا لنارِ أي شَقِىٍّ تَربَّعَتْ في نفسهِ الشِريـرةِ هذه الأفكارُ الخَطِرة تلكَ حالٌ ‏أستعيذُ بالله منها. هي مَضيَعة للطمأنينة. ومَقتَلَةٌ للنبوغْ. ومَفسَدةٌ لنفسِ العاملين. بل ‏هي حُفرةٌ يَتردَّى فيها إخلاصُ المُخلِصينَ ونشاطُ المُجِدِّينَ وإيمانُ المُصلحين. ‏

اجعلوا حُكمَكم رسالةَ عدلٍ وبلاغَ عِبرةْ. وبُشـرَى سلامْ. وإذا جنحتُم إلى ‏الرحمةِ فاشمَلوا بها النَّشءَ وقد أوشكَ أن يلتوىَ، واشمَلوا البلادَ وقد دبَّ فيها ذاك ‏الدَّاءُ الوخيم.

‏ *** ‏
أما عن لغةِ الأحكام: فلما كان لكلِّ قلم قوتُه ولكل كاتبٍ طريقتُه، فمِن ‏العبَثِ وضْعُ قواعدَ مُطلقةٍ لصياغةِ الأحكام، فالأمرُ قبلَ كلِّ شيءٍ حُسْـنُ ذَوقٍ ‏وحُسن تصرفٍ. ولكنْ لِلُغةِ الأحكامِ مع ذلكَ مَيزاتٌ ننوهُ بها: ‏

اِسمَع فِـقْراتٍ من حكمِ عبد العزيز باشا فهمي رئيسِ محكمةِ النقضِ في قضية ‏مأمور البداري سنة اثنتَين وثلاثينَ وتِسعِمِـائةٍ وألف ومُلخصُها أنَّ هذا المأمورَ اعتقلَ ‏شخصَينْ وأخذ َيعاقبهما بهتكِ عِرضَيهما وتَسميتهما بأسماءِ النساءِ فترصَدَاهْ وقتَلاه. ‏يقول في الحكم: ‏

‏"وبما أنَّ هذه المعاملةَ التي أثبتَـتْ للمحكمةِ أنَّ المجني عليه كان يعامِلُ ‏الطاعنَينِ بها هي إجرامٌ في إجرام. ومن وقائعها ما هو جنايةُ هتكِ عِرضٍ يعاقِبُ عليها ‏القانون بالأشغال الشاقة، وكلُها من أشدِّ المخازي إثارةً للنفسِ واهتياجًا لها ودفعًا بها ‏إلى الانتقام.

ولما كان هذان الطاعنانِ يتخوَّفانِ من تَـكرارِ ارتكابِ أمثالِ هذه المُنكراتِ في ‏حقهما. فلا شكَ أنَّ مثلَهما الذي أُوذيَ واهتِيجَ ظُلمًا وطغيانًا والذي ينتظرُ أنْ يَتجدَّدَ ‏إيقاعُ هذا الأذى الفظيعِ به لا شكَ أنه إذا اتجهت نفسُه إلى قتل مُعذِبِهِ فإنها تتجهُ إلى ‏هذا الجرمِ موتورةً مما كانْ. مُنزعجةً واجمةً مما سيكون، والنفسُ الموتورةُ المنزعجةُ هي ‏نفسٌ هائجةُ أبدًا لا يدعُ انزعاجُها سبيلًا لها إلى التَبَصُـرِ والسكونْ حتى يُحكِّمَ العقلَ ‏هادئًا متزنًا مُتروِّيًا فيما تتجهُ إليه الإرادةُ من الأغراضِ الإجراميةِ التي تتخيلُها قاطعةً ‏لشقائِها. ولا شكَ بناءً على هذا. أنْ لا محلَ للقولِ بسبق الإصرارْ إذ هذا الظرفُ ‏يستلزمُ أن يكونَ لدى الجاني من الفرصةِ ما يسمحُ له بالتروِّي والتفكير المطمئنِ فيما ‏هو مُقدمٌ عليه".

‏ ***‏

إنَّ سلامةَ اللغةِ من حيثُ إدراكُ حقيقةِ ما تُعبِّرُ عنه الألفاظْ لهُ مَبلغ ‏الأثر في الاستدلالِ عندَ كتابةِ الأحكام. فإنْ لم تُؤدِّ الكلمةُ مَعناها نفسَهُ في ‏القاموسِ، اختلَّ الحكمُ وفسَدَ الاستدلال.

فاللغةُ العربيةُ تختلفُ عن غيرِها من اللغاتِ في أن قواعدَها - لَغةً ‏ونحوًا وصَرفً واشتقاقًا - تُمثلُ جزءًا من معنى العبارة، وأيُّ خَللٍ في هذه ‏القواعدْ، يؤدي إلى اختلالِ المعنى.

ونَسُوقُ هنا مثالًا على فَسادِ الاستدلالِ لاختلالِ المعنى اللُغَوي:

شَخصَانِ تَشاجرَا في السُوق. طعَنَ أحدُهما الآخرَ بمِطواةٍ فنُقلَ إلى ‏المستشفى وتُوفيَ لاحقًا. وفي تحصيلِها للواقعةِ قالتِ المحكمةُ قاصدةً التدليلَ ‏على نيةِ القتل: (إنَّ المتهمَ لم ينفكْ عنه إلا أنْ باتَ جثةً هامدة). ‏
وفي اللغةِ لا يمكنُ أن تُطلَقَ عبارة (جثةٍ هامدة) إلا على مَن فارقَ ‏الحياةَ، وبالتالي يكونُ مدلولُ العبارةِ المتقدمةِ، هو أنَّ المجني عليهِ ماتَ في ‏الحالِ في مكانِ الحادثِ، بَـيْـَد أنَّ المحكمةَ لم تكنْ تقصدُ شيئًا من هذا ولكنَّ ‏اختلالَ المعني اللغويِّ عندها أدى إلى اختلالِ الحكم. الأمرُ الذي أدى إلى ‏نقضِهِ. وقالت محكمةُ النقضِ في بيانِ ذلكَ: إنَّ كلمةَ (جثة) لا تُطلَقُ إلا على ‏مَن فارَقَ الحياة. وبالتالي يكونُ قد وقَرَ في يقينِ المحكمةِ أنَّ المجني عليه ماتَ ‏في الحالِ في مكان الحادثِ، وهو ما يُخالفُ الثابتَ في الأوراقِ ويَعيبُ الحكمَ ‏بعيبِ الفسادِ في الاستدلال. ‏

أرأيتَ كيف أنَّ عدمَ سلامةِ اللغةِ ما أرادَت المحكمةُ أن تُعبِّرَ به عن ‏المقصودِ أدى إلى فَسادِ الحكم! ‏
‏ ***‏
ومن جانبٍ آخرَ - وهو من الأهميةِ بمكانٍ - لابُدَّ أن تصلَ (لغةُ) ‏الحكمِ بالقارئِ إلى حَـدِّ الاقتناعِ التام بالنتيجة. فالحكمُ الجنائيُ على وجهِ ‏الخصوصِ، هو حكمٌ على السلوكْ، والسلوكُ وراءَه نفسٌ بشـرية. فلابُـدَّ أن ‏تُصاغَ الأحكامُ بلغةٍ تُعبِّـر عن هذه النفس. ‏
فالأمرُ لا يتعلقُ بسلامةِ الحكمِ من الناحيةِ الموضوعيةْ (أي من حيثُ ‏الفَنُ القانونيُّ في بنائهِ ومُطابقتهِ لأحكامِ الصياغة) فقد يكونُ الفنُ سليمًا ‏قانونًا ولكنَّ الحكمَ جامدٌ لا رُوحَ فيه. ‏
فالأحكامُ رَوابطُ لإقناعِ المتلقي بالمنطوق، فلا يكفي أن نقتنعَ به من ‏الناحيةِ الفنيةِ وحدها وإنما بالإضافةِ إلى ذلكَ من الناحيةِ البَشـرية، أي أنَّ مَن ‏يقرأُ المقدماتِ والأسبابَ بوُسعِهِ أن ينتهيَ إلى المنطوقِ قبلَ أن يصلَ إليهِ في ‏نهايةِ الحكمْ. سواءٌ أَتخذَ الحكمَ جانبَ الشِدةِ أم جانبَ الرأفة.

ولذلك. فهناكَ درجاتٌ لقراءةِ الحكم، اُشبِّهُها بدرجاتِ الانتشاءِ ‏بطرُقِ الأداء القرآني: نَجدُ قارئًا يقرأُ قراءةً صحيحةً تمامًا، مطابقةً ِلأحكام ‏التلاوةِ ولكنكَ لا تنجذبُ إليه. وثمَةَ قارئٌ آخرُ يقرأُ قراءةً تملِكُ عليكَ ‏سَمعَكْ. ثم هناكَ درجةٌ أعلى، هي قارئٌ يجعلُكَ تَنتبهُ وتَـتـتبَّـعُ وتتدبَّرُ ما ‏يقولْ. ثم هناكَ الدرجةُ القصوى، وهي أن تَستمعَ وتُنصِتَ وتـَتـتـبَّعَ وتتدبَّرَ ‏وتتفاعلْ بما سَمِعتْ. ‏
وكذلكَ الحكمُ الجنائيُّ، قد يكونُ سليمًا ولكنه بلا رُوحٍ من الناحيةِ ‏الإنسانية، فلا يَفهمُ مَن يقرؤهُ لماذا أخذَتِ المحكمةُ المتهمَ بالشِّدةِ ولم تأخذُهُ ‏باللينِ أو العكس. وإنما الدرجةُ العُليا هي أنَّ المتلقيَ للحكمِ تَجيشُ عواطِفُه ‏وينفعلُ بما قرَأ.

وإنَّ لنا في المثالِ التالي لَعِبرة: اِستمعْ معي إلى محمد بك رضا شوكت ‏يَسُوقُ أسبابَ استعمالِ المحكمةِ الرأفةَ مع فتاةٍ قتلَت والدَها وأضرَمتِ النارَ ‏في جُثتهِ بعد أن ظلت تُقاومَ اغتصابَه لها عَامَين كاملين. وأتحدَّى القارئَ إنْ لم ‏يكن قد توقعَ ما سَيحكُمُ به القاضي قبل أن يصِلَ إلى المنطوقِ في نهاية الحكم. ‏يقولُ في حُكمهِ التاريخي:

وحيثُ إنَّ المحكمةَ إذ تضعُ مَوازينَ القِسطِ وهي بصددِ تقدير ‏العقوبةِ بعد أن أحاطت عِلمًا بوقائعِ الدعوى وباتَتْ كلُ نَفسٍ بما كسَبَت من ‏الجُرمِ رهينةْ، لِما وقَرَ في عقيدتِها أنَّ المتهمةَ أُحيطَتْ بظروفٍ ساقَتها دَفعًا ‏لمقارفةِ الجريمةِ وقد استبدَّ بها اليأسُ، وحصَدَها الإحباطُ وتحطمَت إرادتُها. ‏وظلت تُقاومُ حتى جاءت اللحظةُ التي استوي فيها عندها الموتُ والحياةْ ‏وانهارَت لديها كلُ المعاني والقِيَمِ النبيلة.

وما كان حصادُ جريمتِها إلا أبٌ طمَحَتْ به الشهواتُ وعصَفَ به ‏جنونُ الرغبةِ المدمرةْ. فألقَت به في أَتُونِ الخطيئةْ. فخلَط بين الحلالِ والحرامْ ‏واستبدَّ به شيطانُه فباتَ كوحشٍ كاسرٍ انفلَتَ من عِقالِه. وشيطانٍ مَريدٍ لا ‏يَعرفُ للأعراضِ حُرمةً ولا للحُرماتِ قَداسَة.‏

ولم تكن ضحيتُه إلا إحدى مَحارمِهْ. نَسِىَ أنه الأبُ. والحامي للعِرضِ ‏والقُدوةُ والملاذْ. وانحَلَّ رباطُ الدمِ الذي يربِطهُ بها إلى مَاءٍ مَهينْ. يأكلُ لحمَ ‏بيتِه حيًا ويَنهشُ عِرضَهُ في جُرأةٍ غَيرِ مسبوقةٍ فيها خُروجٌ على شريعةِ السماءْ، ‏وتَمردٌ على قانون الأرض. ‏

ولتلك الظروفِ جميعِها ونُزولًا على اعتباراتِ الملاءمةِ وحُسْنِ ‏التقديرْ وسَترًا لتلكَ النفوسِ العاريةِ التي تحتاجُ لمن يَستُرها. وتَضميدًا لتلكَ ‏الشـُروخِ العميقةِ التي عصَفت بتلك الأسرةِ وتحتاجُ لمن يَرحمُها. فإنَّ المحكمةَ ‏تأمرُ بوقفِ تنفيذ العقوبةِ. لعلَّ المتهمةَ تتوبُ إلى بارئِها. وتتطهَّرُ من رِجسِ ‏الخطيئةْ. ولِتُطوَى صفحاتُ تلكَ النفوسِ العاريةْ التي احترقت في أَتون ‏الشهوات. ‏