المستشار بهاء المري رئيس محكمة الاستئناف يكتب : اللغةِ العـربيةِ في أروقـةِ القَضـاء


إن الحديث عن (اللغة العربية في أروقة القضاء) لَيُصيب المتحدث بالحيرة، فعَن أي ناحيةٍ من نواحي الموضوعِ يتحدث ونواحيهِ - كما يوحِي عنوانه - ليس إلى حَصـرها من سبيلْ، ولكني آثرتُ اختيار واحدة من الزوايا التي تَتجَلى منها هذه اللغة في هذا المرفق الهام هذه الزاويةُ هي (لغةُ القانون) وأقصدُ بلغةِ القانونِ هُنا (لغةَ الأحكامِ والمرافعاتْ) فكلاهُما أساسُ هذا الفنْ. فَنِ (اللغةِ العربيةِ في أروقةِ القضاء).
وإذا كانت اللغةُ لازمةً لكلِ عملٍ يَتصلُ بالتعبيرِ عن الأفكارِ أو نقل الآراءْ فإنها ألزمُ بالنسبةِ للعملِ القانونيِ بوجهٍ عامْ، والعملِ القضائيِ بوجهٍ خاص. فالعملُ القضائيُّ نِصفهُ قانون، ونصفهُ لغة. والأفكارُ القانونيةُ تَظلُ حبيسةَ الذهنِ إلى أن تنتقلَ إلى السَامعِ أو القارئِ عن طريقِ اللغة.
ولستُ مبالغًا إنْ قُلتُ: إنَّ رجالَ القضاءِ لا يَتمايَزونَ فيما بينَهم بالعلمِ القانونيِّ فحَسْب، فالثقافةُ القانونيةُ مُفتَرضةٌ فيهم، وافرةٌ لديهم، وأمَّا الثقافةُ اللغويةُ فمقصُورةٌ على البعض، هذا البعضُ هو الذي يجمعُ بين الفِكرِ القانونيِّ وبينَ حُسنِ التعبيرِ اللُغوي عنه.
نحن لا نَطلبُ من رجالِ القضاءِ أن يكونوا عُلماءَ مُبرِّزينَ في اللغة، وإنما حسبُهم أن يكونَ لديهم قَدرٌ ولو بسيطٌ من الثقافةِ اللُغوية، يُمَكِنُهم من أن يكتُبوا كتابةً صحيحة. وأنْ يقرأَوا قراءةً صحيحة. وأن ينطِقُوا أيضًا نُطقًا صحيحًا فصيحًا، وأنْ يكونَ في مَكتباتهم إلى جانبِ كُتبِهم القانونيةِ العديدةْ كتابٌ في قواعدِ اللغة.
وإذا تحدثنا عن "اللغةِ العربيةِ في أروقةِ القضاءِ" استحالَ علينا أن نَقصُـرَ البحثَ على (الكلامِ) نحوِهِ وصَرفِهِ وباقي صفاتِه الُلغوية. ولكن علينا أن ننظرَ في هذه اللغةِ من حيثُ الأسلوبُ واختيارُ اللفظِ وترتيبُ الكلامِ ومراعاةُ المناسبة. أي "من حيثُ قانونُ اللغة".
بل إنَّ الموضوعَ ذو شِقَين بطبعِه: ذلكَ أنَّ اللغةَ والقاضي جالسٌ للقضاءِ غيرُها والمحامي أو مُمثلُ النيابةِ العامةِ قائمٌ للدفاع.
فالمترافعُ يُخاطبُ مَشاعرَ القُضاةِ وعُقولَهم. يُخاطبُ مَشاعرَهم حين يَتناولُ أدبياتِ الدعوي، مثلَ جَسامةِ الجريمةِ وخَطرِها على المجتمع. وهو في هذا عليه أن يَختارَ العبارةَ الرَّنانةَ التي تَبعثُ الحماسةَ، وتَـهُزُ المشاعرَ، وتُؤثِّـرُ في نفوسِ السامعين. أمَّا في سَردِهِ للأدلةِ وذِكرِ الجانب القانونيّ، فهو يُخاطبُ عقولَ القُضاةِ وهو في هذا مَنوطٌ بهِ أن يَصطنعَ الأسلوبَ الهادئَ المتزنَ الخاليَ من عباراتِ الحماسةِ لإقناعِ العقلِ بالدليل. وأَّمَّا لغةُ الأحكامِ فلابُدَّ فيها من الوضوحِ والإيجازِ والتركيزْ، والحقيقةُ أنَّ البلاغةَ إنْ هيَ إلا الإيجازُ.
لقد طوَّرَ رجالُ القانونِ لغةَ الأحكامِ القضائيةِ إلى العربيةِ الفُصحَى. فقد كانتِ الأحكامُ عند بَدءِ إنشاءِ المحاكمِ سنةَ اثنتَينِ وثمانينَ وثمانمِـائةٍ وألف - ميلادية - تُكتَبُ بلغةٍ يَصعبُ أن يُقالَ فيها إنها لغةٌ عربية. كانت خليطًا من كلماتٍ تركيةٍ وأخرى عاميَّة. ويكفي أن نقرأَ في أحكامِ ذلك العهدِ عباراتٍ مثل: و(من ذلك يَنفهمُ للمحكمة) أو: (ومن حيثُ ليس للمتهمِ شُهود) أو (وتبيَن من سُبُوقِ المخاطبةِ) وغيرُ ذلكَ من عبارات.
ونسوقُ على سبيلِ المثالِ حيثيةً من حُكمٍ لمحكمةِ استئنافِ القاهرةِ في سنة سبعٍ وثمانينَ وثَمانمِـائةٍ وألف في قضيةِ تعويضٍ عن إصابةِ عمَل.
تقول: (ومن حيثُ (أنَّ) حالةَ المَرضِ الذي اعترَى المدعي لا يمكنُ شِفاه، بعينهِ اليُمنى (غَطاطَة) لا يُمكنُ معالجتُها لاستحصالهِ على كَميةٍ من البَصَـر، وأنَّ عِلتَهُ من (الجسِيمةِ) بحيثُ لا يمكنُ أشغالُهُ بالميري). شِفاه: يقصدُ شفاءَه. غَطاطة: يقصدُ سَحابة أو غَمامَة. الجسيمةُ: يقصدُ الجسامة. أشغالُه بالميري: يقصدُ اشتغالُه بالحكومة.
بل إنني أُؤكدُ بعد تَنقيبٍ واستقراءٍ وتَـمَعُنٍ في تُراثنا القضائيْ منذُ حادِثةِ دُنشواي سنةَ سِتٍ وتِسعِمِـائِةٍ وألف حتى الآن أنَّ لغةَ المرافعاتِ والأحكامِ قد صَلُبَ عُودُها وبلغَت أشُدَها إلى حدٍ يَشهدُ لمِصـرَ بالتفوقِ البعيد. وأُؤكدُ أيضًا أنها استطاعَت أن تُضيفَ نوعًا أدبيًا جديدًا يُزاحمُ الأنواعَ الأدبيةَ المعروفةَ وهو ما يُعرفُ الآنَ (بالأدب القضائيْ).
ولا يُنكرُ أحدٌ ما للغةِ العربيةِ من مُتطلَباتٍ: فإذا كنتَ كاتبًا أو أُستاذًا في جامعةٍ أو قاضيًا، أو محاميًا، أو مهندسًا، أو طبيبًا، لا تكادُ تُذكَـرُ أمامَكَ اللغةْ حتى تتجهَ بفِكركَ إلى مُختَلفِ الصعوباتِ التي تُعانيها إذا طُلِبَ منكَ أن تَكتبَ أو أن تُحاضِرَ في فَرعِكَ الخاص باللغةِ الفصحى.
قد يكونُ سهلًا للمُتكلِمِ أو الكاتبِ باللغةِ العربيةْ أن يقولَ شِعرًا يَحتذِي فيه المتنبي، أو يَكتُبَ نَثرًا يَنسِجُ فيه على مِنوالِ عبد الحميد الكاتب أو ابن المقفَّع. أمَّا أن يَعرضَ في قولِهِ أو يكتُبَ بقلمِهِ شيئًا من القانونْ فهو أعزلُ إلا من عزيمةٍ تَبعثُها الصِّعابْ. فقيرٌ إلا من عناصرِ الثروةِ المخبوءةِ في لغتِنا المجيدةِ التي تتطلبُ صبرًا ومُثابرةً في استكشافِها واستعمالِها.
إنَّ لغتَنا العربيةَ غنيةٌ غايةَ الغِنَى بأسمائِها وأفعالِها ونُعوتِها، ولكنَّ هذه الثروةَ لم تُجمَعْ للزينةِ اللفظيةْ، ولم تُدَّخَر في بُطونِ المعاجمِ لكي يَستقيمَ بها الرَّوِيُ وتَنضبطَ، القافيةْ ويَحسُنَ السَجعْ. وإنما ليكونَ منها وسائلُ لأداءِ مَعانٍ مختلفةٍ وإنْ تقاربَتْ، وأولُ واجبٍ على الكاتبِ أن يَستعملَ كُـلَّ لفظٍ فيما أُعِدَّ له من الأصلْ.
وفي تاريخِ القضاءِ المِصـريِّ رجالٌ بلغوا القِمةَ في التَمكُنِ من اللغةِ العربيةِ (في أروقةِ القضاء) وفي قوةِ الأسلوبِ وكمالِهِ وسلامتِهْ. من هؤلاءِ: عبد العزيز باشا فهمي رئيسُ محكمةِ النقضِ وقاضي القضاةِ في الثلاثينياتِ من القرنِ الماضي، وثاني نقيبٍ للمحامينَ بعدَ إبراهيم الهلباوي بك. ومنهم كذلكَ الدكتور السنهوري. ومصطفى مَرعي عملاقِ القضاءِ والمحاماة.
هؤلاء الرجالُ وغيرُهم استطاعوا بفضلِ تَـمكُنِهم من لغَتِهم وعِلمِهم بدقائِقها، أن يُنشِئوا ما نستطيعُ تَسميتَهُ (بأدب القانونِ أو الأدبِ القضائيْ). فكان إبداعُهم على نحو ما سَنرى من بعض الأمثلة.
فهذا هو أحمد لطفي السيد المحامي: كانت لغتُهُ مرآةً مصقولةً لفِكرهِ الرائقْ. ألفاظُهُ سَهلةٌ مُـختارةٌ بدقة. وجُـمَلُهُ على قَدرِ حاجة الكلامْ. لا تستطيعُ حذفَ كلمةٍ منها مَخافةَ أن يَختلَّ المعنى وتضيعَ الفائدة. اُنظُر إليه يترافعُ عن إبراهيم الورداني قاتل بطرس غالي باشا رئيس الوزراء سنة عشـرٍ وتِسعِمِـائةٍ وألف في أولِ قضيةِ اغتيالٍ سياسيٍ في العصـرِ الحديثْ. اُنظر كيف يَروي وقائِعَها التي جاوزتِ الألفَ صفحةٍ في بَساطةٍ وسُهولةٍ تَوطِئةً لبحثِـهِ القانوني. وكيف يُوردُ الكلامَ على قَدر المعنى المطلوب. يقول:
"نزلَ رئيسُ الوَزارةِ المصـريةِ يومَ الحادثِ من ديوانهِ يُحيطُ به كعادتهِ رجالُ الحكومةْ. حتى بَلغوا به سُلَّم نِظارة الحقانيةْ. ولم يكَد يُودِّعُ مُشيعيهِ حتى فاجأهُ هذا الفَتَي؛ فأفرغَ فيه عِدةَ رَصاصاتٍ طرَحتهُ على الأرضِ يتخبطُ في دمِه. أطلقها من مُسدسٍ كانت تحملهُ يَدٌ لم تخُنها قُواها. يُقلِّبُهُ بقلبٍ كأنه قُـدَّ من الحديد. فأنفذَ حَشوَهُ فيه. ولكن مع الأسفْ لم يكن حولَ الفقيدِ يَدُ شَهمٍ مُخلصٍ تُـنقذُ القتيلَ ولذلك وجَدَت رَصاصاتُ ذلكَ الفتى سبيلًا إلى جسم رئيس الوَزارة".
هذه هي القضية. أرأيتَ سِحرَ (اللغةِ العربيةِ في أروقة القضاء). وكيف أنَّ لغةَ القضاءِ مُبهرة.
ثم استمِع إليهِ وهو يختتمُ المرافعةَ ذاتَها بتوجيهِ الخِطابِ إلى المتهمْ، كيف يُطلقُ العَنانَ للعاطفةِ دون أن يَختلَّ ميزانُ أسلوبِه السَهلِ الممتنعْ:
"لقد هِـمتَ بحُبِ بلادكَ حتى أنساكَ ذلك الهُيامُ كلَّ شيءٍ حولَكْ. أنساكَ واجبًا مقدسًا هو الرأفةُ بأختِكَ الصغيرةْ. وأُمِّكَ الحزينةْ. فتركتَهما تَبكيانِ هذا الشبابَ الغَضْ. تركتَهما تَتقلبانِ على جَمر الغَضَا. تركتَهما تُقلبانِ الطرفَ حولهما فلا تَجدانِ غيرَ منزلٍ مُقفرٍ غابَ عنه عائِلُهْ. تركتَهما على ألا تعودَ إليهما وأنتَ تعلمُ أنهما لا تُطيقانِ صبرًا على فِراقِكَ لحظةً واحدةْ. فأنتَ أملُهما ورجاؤهما.
دفَعكَ حبُ بلادكَ إلى نسيانِ هذا الواجبْ. وحجَبَ عنكَ كلَّ شيءٍ غيرَ وطنِكَ وأُمَّتِكْ. فلم تُفكِّر في تلك الوالدةِ البائسةْ. وهذه الزَهرةِ اليانعة. ولا فيما سَينزلُ بهما من الحزنِ والشقاءِ بسببِ ما أقدمْتَ عليه.
اِعلَم أيها الشابُ أنه إذا تَشدَدَ معكَ قُضاتُكَ ولا إخَالُهم إلا راحميكْ. فذلكَ لأنهم خَدَمَةُ القانون. وهذا هو السلاحُ المسلولُ في يَدِ العَدالةِ والحريةْ. وإذا لم يُنصِفوكَ ولا أظنُهم إلا مُنصفيكْ. فقد أنصفكَ ذلك العالَم الذي يَرى أنكَ لم تَرتكبْ ما ارتكبتَهُ بُغيةَ الإجرامْ. ولكن باعتقادِ أنكَ تخدمُ بلادَكْ. وسواءٌ أَوافقَ اعتقادُكَ الحقيقةَ أَم خالفَها، فتلكَ مَسألةٌ سَيحكُمْ التاريخُ فيها. وتَقَبَّلْ حُكمَ قُضاتِكَ باطمئنانٍ واذهب إلى مَقرِّكَ بأمان".
وفي مثالٍ آخرَ لإيرادِ الكلامِ على قَدر المعنَى المطلوب. نَجدُ في مذكرةٍ للأستاذ سُليمان حافظ المحامي - مع ملاحظة أنَّ لغةَ الحديثِ في الدعاوَى المدنيةِ ليست لغةَ عاطفةٍ ولا صُورٍ بلاغيةْ - قال يُحددُ موضوعَ بحثِهِ ويُبينُ ما سبَقْ من الرأيْ. وينتهي إلى غَرضِهِ من الاستشهادِ بحكمِ محكمة النقض. يقول: "بَيعانِ أحدُهما من مُورِّثٍ، والثاني من وارثٍ عن عينٍ بذاتها. وبَيعُ الوارثِ أسبقُ تسجيلًا. فأيُهما أحقُ بالتفضيل؟ وأي المُشتريَينِ تملَّك؟ المشتري من المُورِّث أو المشتري من الوارث؟
قد يُقالُ إنَّ العقدَ الأسبقَ تَسجيلًا هو العقدُ الأحقُ بالتفضيلْ. غيرَ أنَّ نظريةَ التفاضلِ بالتسجيلِ لا مَحِـلَّ لها ما لم يكن البَيعانِ صادرَين من مالكٍ واحد.
وقعَ خلافٌ فيما مَضَـى على هذه المسألة. فقال فريقٌ إنَّ شخصيةَ الوارثِ تُكمِّلُ شخصيةَ المُورِّثِ أخذًا بقواعدِ القانون الفَرنسـي. وقال فريقٌ آخرُ إنها مُغايرةٌ لشخصيةِ المُورِّثِ طبقا للشـريعةِ الإسلامية. وتزاحمَت الأحكامُ بين الرأيَينْ. وانقسمَ الفقهاءُ المِصـريونَ حتى طُرحِتْ المسألةُ أمام محكمة النقضْ وأصدرت فيها حكمًا أخذ بالرأي الثاني ووضَع نهايةً للخلاف السابق".
***
ولا نُغفِلُ ونحن بصَددِ ِ الحديث عن لغةِ المرافعاتِ في مصـرَ رجالَ النيابةِ العامةْ. فقد ضربوا في فَنِ الكلامِ والأدبِ القضائِيْ بسَهمٍ. وارتفعوا بالمرافعاتِ الجنائية إلى سماواتِ ِعلِّيين.
اِسمَع ما قالهُ النائبُ العموميُ الأسبقُ عبد الخالق ثروت باشا في قضيةِ اغتيالِ بطرس غالي باشا وأطلِق لذائِقتكَ العِنانَ بين أفانينِ القَول. يقول:
"إنَّ الوطنيةَ التي يدَّعي الورداني الدفاعَ عنها بهذا السلاحِ المسمومْ لَبرَاءٌ من مثل هذا المُنكَرْ. إنَّ الوطنيةَ الصحيحةَ لا تَحِلُ في قلبٍ ملأتهُ مبادئُ تَستحلُّ اغتيالَ النفسْ. إنَّ هذه المبادئَ مُقوِّضَةٌ لكل اجتماع.
وماذا يكونُ حالُ أُمَّةٍ إذا كانت حياةُ أولي الأمرِ فيها رهينةَ حَكَمٍ مُتهوِّسٍ يَبيتُ ليلَهُ فيضطَّربُ نومُهُ وتَكثُرُ هواجِسُهْ. فيُصبحُ صباحَهُ ويحملُ سلاحَهُ يَغشاهُم في دارِ أعمالِهم فيُسقيهم كأسَ الـمَنون.
وكيف يقومُ لنظامٍ قائمةٌ مع تلكَ المبادئْ الفاسدة. إنَّ مبادئَ كلِّ مُجتمعٍ ألاَّ يَنالَ إنسانٌ جزاءً على عَملٍ مهما كان هذا الجزاءُ صغيرًا إلا على يَدِ قُضاةٍ اشتُرطت فيهم ضَماناتٌ قويةٌ، وبعد أن يَتمكَّنَ من الدفاعِ عن نفسهِ حتى يُنتجَ الجزاءُ النتيجةَ الصالحةَ التي وُضعَ لها.
ثم إذا سُئلَ في ذلك، تَبجَّحَ وقالَ إنما أخدُمُ وطني، تَـبًا لتلكَ المبادئِ وسُحقًا لها. كيف يقومُ لنظامٍ قائمةٌ مع تلك المبادئِ الفاسدة. فإذا كان هذا هو الشأنَ في أقلِ جَزاءٍ يَلحقُ بالنفسِ أو بالمالِ فما بالُكَ بجزاءٍ هو إزهاقُ الرُوحِ والحرمانُ من الحياة. تلكَ مبادئُ لا وجودَ لمجتمعٍ إلا بها، ولا سعادةَ لأُمةٍ بدونها، فالطمأنينةُ على المالِ والنفسِ هي أساسُ العُمران. ولكنَّ الورداني له مَذهبٌ آخر. فهو يضعُ نفسَهُ مَوضِعَ الحَكَمِ على أعمالِ الرجال. فما ارتضاهُ منها كان هو النافع. وما لم يرتَضِهِ كان هو الضَّارْ. ويريدُ أيضًا أن يكونَ القاضي الذي يُقدِّرُ الجزاءَ ثم يقضى بهِ من غير مُعقِّبْ ولا رادّْ.
ثم اسمع ما قالَهُ النائبُ العموميْ محمد لبيب عطية بك ضد محمد الفلال الذي شرَعَ في قتلِ إسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء مُـختتمًا به مرافعتَهُ. يقول:
"ذلكَ هو ولَعُ التَبطُلِ وغوايةُ الاستعظام. وهو داءٌ اجتماعيٌ وبيلٌ يُهَددُ الحكوماتِ في كِيانِها ويَشُلُ النظامَ في أساسه. وإن لم يُؤخذ بيَدٍ عَسـراءَ استفحلَ ضَررُه وعزَّ اتقاءُ شرِّه.
اُرسُمُوا لأنفسِكُم بواسعِ خِبرتِكم ونافذِ بصيرتِكم حالَ البلادِ وقد أصبحَ كلُ عظيمٍ فيها هَدفًا لنارِ أي شَقِىٍّ تَربَّعَتْ في نفسهِ الشِريـرةِ هذه الأفكارُ الخَطِرة تلكَ حالٌ أستعيذُ بالله منها. هي مَضيَعة للطمأنينة. ومَقتَلَةٌ للنبوغْ. ومَفسَدةٌ لنفسِ العاملين. بل هي حُفرةٌ يَتردَّى فيها إخلاصُ المُخلِصينَ ونشاطُ المُجِدِّينَ وإيمانُ المُصلحين.
اجعلوا حُكمَكم رسالةَ عدلٍ وبلاغَ عِبرةْ. وبُشـرَى سلامْ. وإذا جنحتُم إلى الرحمةِ فاشمَلوا بها النَّشءَ وقد أوشكَ أن يلتوىَ، واشمَلوا البلادَ وقد دبَّ فيها ذاك الدَّاءُ الوخيم.
***
أما عن لغةِ الأحكام: فلما كان لكلِّ قلم قوتُه ولكل كاتبٍ طريقتُه، فمِن العبَثِ وضْعُ قواعدَ مُطلقةٍ لصياغةِ الأحكام، فالأمرُ قبلَ كلِّ شيءٍ حُسْـنُ ذَوقٍ وحُسن تصرفٍ. ولكنْ لِلُغةِ الأحكامِ مع ذلكَ مَيزاتٌ ننوهُ بها:
اِسمَع فِـقْراتٍ من حكمِ عبد العزيز باشا فهمي رئيسِ محكمةِ النقضِ في قضية مأمور البداري سنة اثنتَين وثلاثينَ وتِسعِمِـائةٍ وألف ومُلخصُها أنَّ هذا المأمورَ اعتقلَ شخصَينْ وأخذ َيعاقبهما بهتكِ عِرضَيهما وتَسميتهما بأسماءِ النساءِ فترصَدَاهْ وقتَلاه. يقول في الحكم:
"وبما أنَّ هذه المعاملةَ التي أثبتَـتْ للمحكمةِ أنَّ المجني عليه كان يعامِلُ الطاعنَينِ بها هي إجرامٌ في إجرام. ومن وقائعها ما هو جنايةُ هتكِ عِرضٍ يعاقِبُ عليها القانون بالأشغال الشاقة، وكلُها من أشدِّ المخازي إثارةً للنفسِ واهتياجًا لها ودفعًا بها إلى الانتقام.
ولما كان هذان الطاعنانِ يتخوَّفانِ من تَـكرارِ ارتكابِ أمثالِ هذه المُنكراتِ في حقهما. فلا شكَ أنَّ مثلَهما الذي أُوذيَ واهتِيجَ ظُلمًا وطغيانًا والذي ينتظرُ أنْ يَتجدَّدَ إيقاعُ هذا الأذى الفظيعِ به لا شكَ أنه إذا اتجهت نفسُه إلى قتل مُعذِبِهِ فإنها تتجهُ إلى هذا الجرمِ موتورةً مما كانْ. مُنزعجةً واجمةً مما سيكون، والنفسُ الموتورةُ المنزعجةُ هي نفسٌ هائجةُ أبدًا لا يدعُ انزعاجُها سبيلًا لها إلى التَبَصُـرِ والسكونْ حتى يُحكِّمَ العقلَ هادئًا متزنًا مُتروِّيًا فيما تتجهُ إليه الإرادةُ من الأغراضِ الإجراميةِ التي تتخيلُها قاطعةً لشقائِها. ولا شكَ بناءً على هذا. أنْ لا محلَ للقولِ بسبق الإصرارْ إذ هذا الظرفُ يستلزمُ أن يكونَ لدى الجاني من الفرصةِ ما يسمحُ له بالتروِّي والتفكير المطمئنِ فيما هو مُقدمٌ عليه".
***
إنَّ سلامةَ اللغةِ من حيثُ إدراكُ حقيقةِ ما تُعبِّرُ عنه الألفاظْ لهُ مَبلغ الأثر في الاستدلالِ عندَ كتابةِ الأحكام. فإنْ لم تُؤدِّ الكلمةُ مَعناها نفسَهُ في القاموسِ، اختلَّ الحكمُ وفسَدَ الاستدلال.
فاللغةُ العربيةُ تختلفُ عن غيرِها من اللغاتِ في أن قواعدَها - لَغةً ونحوًا وصَرفً واشتقاقًا - تُمثلُ جزءًا من معنى العبارة، وأيُّ خَللٍ في هذه القواعدْ، يؤدي إلى اختلالِ المعنى.
ونَسُوقُ هنا مثالًا على فَسادِ الاستدلالِ لاختلالِ المعنى اللُغَوي:
شَخصَانِ تَشاجرَا في السُوق. طعَنَ أحدُهما الآخرَ بمِطواةٍ فنُقلَ إلى المستشفى وتُوفيَ لاحقًا. وفي تحصيلِها للواقعةِ قالتِ المحكمةُ قاصدةً التدليلَ على نيةِ القتل: (إنَّ المتهمَ لم ينفكْ عنه إلا أنْ باتَ جثةً هامدة).
وفي اللغةِ لا يمكنُ أن تُطلَقَ عبارة (جثةٍ هامدة) إلا على مَن فارقَ الحياةَ، وبالتالي يكونُ مدلولُ العبارةِ المتقدمةِ، هو أنَّ المجني عليهِ ماتَ في الحالِ في مكانِ الحادثِ، بَـيْـَد أنَّ المحكمةَ لم تكنْ تقصدُ شيئًا من هذا ولكنَّ اختلالَ المعني اللغويِّ عندها أدى إلى اختلالِ الحكم. الأمرُ الذي أدى إلى نقضِهِ. وقالت محكمةُ النقضِ في بيانِ ذلكَ: إنَّ كلمةَ (جثة) لا تُطلَقُ إلا على مَن فارَقَ الحياة. وبالتالي يكونُ قد وقَرَ في يقينِ المحكمةِ أنَّ المجني عليه ماتَ في الحالِ في مكان الحادثِ، وهو ما يُخالفُ الثابتَ في الأوراقِ ويَعيبُ الحكمَ بعيبِ الفسادِ في الاستدلال.
أرأيتَ كيف أنَّ عدمَ سلامةِ اللغةِ ما أرادَت المحكمةُ أن تُعبِّرَ به عن المقصودِ أدى إلى فَسادِ الحكم!
***
ومن جانبٍ آخرَ - وهو من الأهميةِ بمكانٍ - لابُدَّ أن تصلَ (لغةُ) الحكمِ بالقارئِ إلى حَـدِّ الاقتناعِ التام بالنتيجة. فالحكمُ الجنائيُ على وجهِ الخصوصِ، هو حكمٌ على السلوكْ، والسلوكُ وراءَه نفسٌ بشـرية. فلابُـدَّ أن تُصاغَ الأحكامُ بلغةٍ تُعبِّـر عن هذه النفس.
فالأمرُ لا يتعلقُ بسلامةِ الحكمِ من الناحيةِ الموضوعيةْ (أي من حيثُ الفَنُ القانونيُّ في بنائهِ ومُطابقتهِ لأحكامِ الصياغة) فقد يكونُ الفنُ سليمًا قانونًا ولكنَّ الحكمَ جامدٌ لا رُوحَ فيه.
فالأحكامُ رَوابطُ لإقناعِ المتلقي بالمنطوق، فلا يكفي أن نقتنعَ به من الناحيةِ الفنيةِ وحدها وإنما بالإضافةِ إلى ذلكَ من الناحيةِ البَشـرية، أي أنَّ مَن يقرأُ المقدماتِ والأسبابَ بوُسعِهِ أن ينتهيَ إلى المنطوقِ قبلَ أن يصلَ إليهِ في نهايةِ الحكمْ. سواءٌ أَتخذَ الحكمَ جانبَ الشِدةِ أم جانبَ الرأفة.
ولذلك. فهناكَ درجاتٌ لقراءةِ الحكم، اُشبِّهُها بدرجاتِ الانتشاءِ بطرُقِ الأداء القرآني: نَجدُ قارئًا يقرأُ قراءةً صحيحةً تمامًا، مطابقةً ِلأحكام التلاوةِ ولكنكَ لا تنجذبُ إليه. وثمَةَ قارئٌ آخرُ يقرأُ قراءةً تملِكُ عليكَ سَمعَكْ. ثم هناكَ درجةٌ أعلى، هي قارئٌ يجعلُكَ تَنتبهُ وتَـتـتبَّـعُ وتتدبَّرُ ما يقولْ. ثم هناكَ الدرجةُ القصوى، وهي أن تَستمعَ وتُنصِتَ وتـَتـتـبَّعَ وتتدبَّرَ وتتفاعلْ بما سَمِعتْ.
وكذلكَ الحكمُ الجنائيُّ، قد يكونُ سليمًا ولكنه بلا رُوحٍ من الناحيةِ الإنسانية، فلا يَفهمُ مَن يقرؤهُ لماذا أخذَتِ المحكمةُ المتهمَ بالشِّدةِ ولم تأخذُهُ باللينِ أو العكس. وإنما الدرجةُ العُليا هي أنَّ المتلقيَ للحكمِ تَجيشُ عواطِفُه وينفعلُ بما قرَأ.
وإنَّ لنا في المثالِ التالي لَعِبرة: اِستمعْ معي إلى محمد بك رضا شوكت يَسُوقُ أسبابَ استعمالِ المحكمةِ الرأفةَ مع فتاةٍ قتلَت والدَها وأضرَمتِ النارَ في جُثتهِ بعد أن ظلت تُقاومَ اغتصابَه لها عَامَين كاملين. وأتحدَّى القارئَ إنْ لم يكن قد توقعَ ما سَيحكُمُ به القاضي قبل أن يصِلَ إلى المنطوقِ في نهاية الحكم. يقولُ في حُكمهِ التاريخي:
وحيثُ إنَّ المحكمةَ إذ تضعُ مَوازينَ القِسطِ وهي بصددِ تقدير العقوبةِ بعد أن أحاطت عِلمًا بوقائعِ الدعوى وباتَتْ كلُ نَفسٍ بما كسَبَت من الجُرمِ رهينةْ، لِما وقَرَ في عقيدتِها أنَّ المتهمةَ أُحيطَتْ بظروفٍ ساقَتها دَفعًا لمقارفةِ الجريمةِ وقد استبدَّ بها اليأسُ، وحصَدَها الإحباطُ وتحطمَت إرادتُها. وظلت تُقاومُ حتى جاءت اللحظةُ التي استوي فيها عندها الموتُ والحياةْ وانهارَت لديها كلُ المعاني والقِيَمِ النبيلة.
وما كان حصادُ جريمتِها إلا أبٌ طمَحَتْ به الشهواتُ وعصَفَ به جنونُ الرغبةِ المدمرةْ. فألقَت به في أَتُونِ الخطيئةْ. فخلَط بين الحلالِ والحرامْ واستبدَّ به شيطانُه فباتَ كوحشٍ كاسرٍ انفلَتَ من عِقالِه. وشيطانٍ مَريدٍ لا يَعرفُ للأعراضِ حُرمةً ولا للحُرماتِ قَداسَة.
ولم تكن ضحيتُه إلا إحدى مَحارمِهْ. نَسِىَ أنه الأبُ. والحامي للعِرضِ والقُدوةُ والملاذْ. وانحَلَّ رباطُ الدمِ الذي يربِطهُ بها إلى مَاءٍ مَهينْ. يأكلُ لحمَ بيتِه حيًا ويَنهشُ عِرضَهُ في جُرأةٍ غَيرِ مسبوقةٍ فيها خُروجٌ على شريعةِ السماءْ، وتَمردٌ على قانون الأرض.
ولتلك الظروفِ جميعِها ونُزولًا على اعتباراتِ الملاءمةِ وحُسْنِ التقديرْ وسَترًا لتلكَ النفوسِ العاريةِ التي تحتاجُ لمن يَستُرها. وتَضميدًا لتلكَ الشـُروخِ العميقةِ التي عصَفت بتلك الأسرةِ وتحتاجُ لمن يَرحمُها. فإنَّ المحكمةَ تأمرُ بوقفِ تنفيذ العقوبةِ. لعلَّ المتهمةَ تتوبُ إلى بارئِها. وتتطهَّرُ من رِجسِ الخطيئةْ. ولِتُطوَى صفحاتُ تلكَ النفوسِ العاريةْ التي احترقت في أَتون الشهوات.