حسام الدين مسعد يكتب عن : نوادي المسرح... كيف قتلوا الحلم ؟


حين انطلقت فكرة "نوادي المسرح" في مصر، كانت بمثابة الحلم الكبير الذي انتظرته الحركة المسرحية طويلاً؛ حلم أن يتحول كل مركز ثقافي إلى ورشة دائمة لاكتشاف المواهب وتطويرها، فلم يكن الهدف أن تنتج مئات العروض، بل أن تتم عملية خلق صوتًا مسرحيًا حرًا، يتعلم على مهل، ويتعثر على مهل، ثم يحلق.
ظهرت فكرة نوادي المسرح مع مطلع الثمانينات على يد مؤسسها المخرج (عادل العليمي)،وقد ظهرت كفكرة مستقلة من جانب شباب الفرق المسرحية في الأقاليم قبل تكوين إدارة لنوادي المسرح، وكانت تمول بشكل رمزي وبسيط جدًا ، وكان الهدف من تكوين نوادى المسرح في أقاليم مصر المختلفة، نشر الثقافة المسرحية الغائبة في كافة مواقع العمل بالثقافة الجماهيرية،ثم إنتاج العروض المسرحية ذات الطابع التجريبي بميزانيات محدودة معتمدة على خيال وأفكار المخرج وفريق عمله بشكل أساسي، لتحقق بذلك النوادي هدفها بتخريج شباب مثقف مسرحياً ومؤهل فنياً ، وقد بدأت تجربة نوادي المسرح نشاطها وسط مجموعة من المعوقات الإدارية والمالية، وأخذت عملية التدريب وإنتاج العروض ذات الطابع التجريبي في تنامى حتى تم تدشين المهرجان الأول لنوادي المسرح عام 1990 بمدينة دمياط، وذلك بمصاحبة مجموعة من الفعاليات ذات الطابع التثقيفي .
لكن، هل لا تزال نوادي المسرح وفية لفلسفتها الأولى؟ أم أنها تحولت إلى مشروع إداري محكوم بسياسة الكم لا الكيف؟
هذا المقال يحاول أن يطرح الأسئلة الجوهرية حول مصير نوادي المسرح ومهرجانها، ويحاجج السياسات الثقافية الحالية، داعيًا إلى وقفة نقدية جادة،إذ يثار السؤال عن ما هي الغاية التي تأسست من أجلها نوادي المسرح؟
سؤال يبدو بسيطًا، لكن الإجابة عنه تكشف لنا عمق المأساة الراهنة.
نوادي المسرح، كما تأسست في تسعينيات القرن العشرين، لم تكن مشروعًا لإنتاج العروض المسرحية الجاهزة، بل كانت مختبرًا حرًا للتجريب والاكتشاف، كما وصفها الراحل د. حسن عطية، حين أكد أن "نوادي المسرح كانت مختبرًا تجريبيًا لا مسابقة تنافسية".
كانت تقوم على منح الشباب فرصة للخطأ،و للتجريب، وللبحث عن صوتهم الخاص، بعيدًا عن ضغط النجاح الفوري أو التقييم الاستعراضي،فالمهرجان السنوي لنوادي المسرح لم يكن حلبة سباق، بل ملتقى لاستعراض البدايات الهشة، والاحتفاء بالمحاولات الجادة مهما كانت بسيطة،لكن متى ولماذا حدث التحول نحو الكمّ؟
هنا يكمن السؤال الأهم:
متى انحرفت البوصلة، وبدأت الإدارة الثقافية تتعامل مع نوادي المسرح باعتبارها ماكينة لإنتاج عدد ضخم من العروض؟
الإجابة تتضح إذا تأملنا تحولات الإدارة الثقافية المصرية، لا سيما مع تضخم الهياكل البيروقراطية وسيطرة منطق "التقرير السنوي" الذي يهتم بإبراز الأرقام لا الأفكار،وكما أشار محمد عبد الحافظ ناصف بدقة وقبل أن يتولي منصب نائب رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة : أن "ما يحدث الآن في إدارة نوادي المسرح هو انتصار للعدد على حساب القيمة، وهو أمر يقتل المواهب بدل أن يصنعها."
لقد صار المعيار: كم عرضًا أُنتج؟ كم عدد المشاركين؟ كم دورة أُقيمت؟
أما سؤال الجودة، سؤال الأثر الثقافي، فقد تراجع إلى الهامش، بل أصبح طرحه نوعًا من الرفاهية المثيرة للسخرية في نظر الإداريين.
لكن ما مظاهر هذا الانحراف في الواقع؟
من يراقب الدورات الأخيرة لمهرجان نوادي المسرح، لن يحتاج إلى كثير عناء ليكتشف المظاهر الكارثية للانحراف نحو الكم،فتصريحات "محمد طايع عام ٢٠٢١ لمجلة مسرحنا تشير الي التوجه نحو سياسة الكم،إذ يقول [ تقدم لنا 250 عرض مسرحى على مستوى الجمهورية، وبالفعل توجهت لجان المناقشة والمشاهدة إلى مختلف الأقاليم لاختيار العروض، وسنقوم خلال الأيام القادمة بعمل حصر شامل للمشاريع التى سيتم إنتاجها، وهذا الموسم عدد المتقدمين أكثر من العام الماضي واعتقد أن عدد الذين سينتجون المشاريع أكثر؛ وذلك لأن هناك توجه من الهيئة العامة لقصور الثقافة وإدارة المسرح أن نقوم بإنتاج اكبر قدر ممكن من المشاريع لشباب نوادي المسرح وذلك ليتمكنوا من ممارسة هوايتهم فى كل قصور الثقافة في أنحاء الجمهورية، وفيما يخص أيدلوجية نوادي المسرح، فعندما أسست منذ 32 عاما وهى كالرسم البياني تشهد فى بعض الأحيان صعودا وأحيانا أخرى هبوطا ... ونتمنى أن يكون مؤشرها هذا الموسوم مرتفع وخاصة أن هناك تفكير فى إعادة المهرجان الختامي الذى توقف وهناك سرعة في الإنتاج فقد بدأنا هذا الموسم مبكرا.]
وقد ادي هذا التوجه نحو الكم الي إنخفاض مستوى غالبية العروض، فنيًا وفكريًا،وتكرار ممل للنصوص الجاهزة والمحفوظة، مع غياب نصوص جديدة مكتوبة خصيصًا للنوادي،
وظهور العروض كنسخ مشوهة من عروض أخرى أكثر احترافًا، دون أن تحمل هوية أو توقيعًا خاصًا،فضلاً عن غياب التقييم الفني الحقيقي والسعي الي التوازن الإداري والمجاملة التي أحبطت عدد كبير من المواهب الحقيقية، التي وجدت نفسها وسط زحام عشوائي لا يميز الجودة من الرداءة.
وتعزز هذه الرؤية ملاحظة نشرتها صحيفة "الأهرام" عن دورة نوادي المسرح لعام٢٠١٩:
"رغم ارتفاع عدد العروض، تراجعت القيمة الفنية للمهرجان، حيث غابت الروح التجريبية التي كانت تميز البدايات، وحل محلها سباق كمي محموم."
في هذا السياق، لم يعد مهرجان نوادي المسرح "كرنفالًا للحلم"، بل صار "سوقًا فوضويًا" تغيب عنه المعايير وتحضر فيه الشعارات الفارغة.
لكن لماذا تصر الإدارة الحالية على سياسة الكمّ؟
الحجاج النقدي هنا يكشف البنية العميقة للأزمة:
الإدارة الثقافية الرسمية تتعامل مع الفن، لا بوصفه مشروعًا معرفيًا وتنمويًا، بل بوصفه بندًا في الميزانية ومادةً للدعاية.
كما أشار الكاتب الراحل د. أحمد سخسوخ بمرارة: "من المؤسف أن تصبح نوادي المسرح مجرد بند إنجازات في ملفات الموظفين، بدل أن تبقى رافدًا حيًا للمسرح المصري."،إذ
كلما زاد عدد العروض المنتجة، أمكن الحديث عن "نجاحات ضخمة" و"مشاركة واسعة" في التقارير الإعلامية،فالكيف لا يدخل في هذه المعادلة، لأنه ببساطة لا يقاس بسهولة، ولا يظهر في الصور الصحفية الرسمية،وأضف إلى ذلك غياب الإرادة الحقيقية لإعادة تأسيس مشروع تنويري؛ فالمناصب الإدارية أضحت امتيازات روتينية لا تتطلب فكرًا نقديًا أو رؤية ثقافية، بل تتطلب فقط إدارة الأزمات الشكلية،فتجارب نوادي المسرح ابتعدت عن المشروع التكويني وتحولت الي إستعراض إداري لا طائل منه .
وهنا نسأل كيف يمكن إنقاذ نوادي المسرح؟
لاسبيل في الإنقاذ إلا بعودة
نوادي المسرح كمختبر يعيد تعريف دور النادي كمساحة للبحث وليس للإنتاج الجاهز،مع
اعتماد معايير فنية صارمة تركز على جودة المشروع المسرحي بغض النظر عن عدد المشاركين أو المحافظات المنتجة .
الإهتمام بدعم حقيقي للورش التدريبية الفنية التطبيقية،وليست ورشًا شكلية للتجميل، بل ورشًا تضع أيدي الشباب على مفاتيح البحث المسرحي الأصيل.
إختيار النقاد والفنانين الحقيقيين أنصار المفهوم التجريبي في لجان التقييم لإعادة الاعتبار لمعيار الجودة والتجريب.
ربط نوادي المسرح بحركة المسرح الحر لخلق جسور مع تجارب المسرح الجامعي، والمسرح الحر، والمبادرات الثقافية الأهلية.
إن نوادي المسرح ليست مشروعًا إداريًا لإنتاج عروض رقمية، بل كانت وستظل مشروعًا ثقافيًا لبناء الإنسان قبل بناء العروض.
دون استعادة فلسفة البدايات، ستتحول نوادي المسرح إلى مجرد ساحة لضجيج بلا معنى، ولن يبقى منها إلا أسماء العروض في أرشيف إداري بارد.
من هنا، فإن السؤال الحقيقي الذي يجب أن نطرحه:
هل نريد أن نصنع مسرحًا يبني الإنسان، أم نريد فقط أن نصنع أرقامًا نعلقها على جدران المؤسسات؟.