الثلاثاء 29 أبريل 2025 09:11 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : في غزة... طفل يأكل الورق… وموائد العالم الحر من دماء

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

في غزة، المجاعة ليست خبراً عارضاً ولا أزمة عابرة، إنها سكين يومي يقطع أعمار الأطفال، ويشوّه ملامح الحياة. في مشهد كُتب عليه أن يُدوَّن في سجل العار الإنساني، جلس طفل صغير، بطنه منتفخ من الجوع، عينيه غارقتان في الذبول، أمسك ورقة، رسم عليها رغيف خبز… ثم أكل الورقة.

ليست صورة خيالية، بل واقع يومي في غزة المحاصرة منذ سنوات، والمذبوحة منذ شهور بآلة حرب صهيونية لا تفرق بين الحجر والبشر، لا تميز بين المقاتل والرضيع، ولا تعبأ بنداءات الاستغاثة. الشعب هناك يُباد بصمت، يُجوع بقصد، يُحرَق ببرود، ويُخنق تحت أنقاض لا يُسمح لها أن تُزال.

المجاعة التي تضرب غزة اليوم ليست مجرّد نقص في الطعام، بل سياسة إبادة ممنهجة. الاحتلال يمنع دخول الدقيق والزيت والمعلبات والماء، ويستهدف شاحنات المساعدات بالقصف، ويُحاصر المعابر بقسوة متعمدة. في قطاع يقطنه أكثر من 2 مليون إنسان، يُمنع الغذاء ويُقطع الدواء وتُستهدف المشافي، وتُحرم النساء من أبسط حقوق الولادة الآمنة، ويُترك الأطفال ليموتوا جوعًا أو خوفًا أو تحت الأنقاض.

الأمهات في غزة يغلين الماء ويضيفن إليه التوابل ليخدعن الأطفال بأن هناك "شوربة"، بينما لا يوجد شيء سوى الفقد. بعض الأسر لا تأكل سوى وجبة واحدة كل يومين أو ثلاثة، وأحيانًا لا شيء على الإطلاق. الأطفال ينهارون من الإعياء في الشوارع، والمياه الملوثة تنشر الأمراض، والحليب المخصص للرضع أصبح ذكرى.

أين العالم؟ في قاعة المؤتمرات، يبحث عن "صياغة متوازنة" بين الجلاد والضحية. في نشرات الأخبار، يُعرض "حذرًا" ما لا يُغضب العروش ولا يزعج الكاميرات. أما الشعوب، فبعضها ينتفض بالدعاء والتضامن، وبعضها يُخدّر بالفتات الرقمي، وأغلبها مشغول بحروب تافهة على هامش المأساة.

ومع ذلك، فإن غزة لا تموت، بل تُذبح وتصرخ، وتبصق في وجه الخذلان. أهلها الجوعى لا يستسلمون، بل يُربّون أبناءهم على الكرامة ولو بلا طعام، وعلى الكبرياء ولو تحت الركام. الطفل الذي أكل الورقة لم يكن يعبّر عن جوعه فقط، بل عن مأساة أمة كاملة تخلّت، وعار حضارة كاملة سقطت.

المجاعة في غزة ليست نقصًا في الغذاء، بل غيابًا في الضمير. هي جريمة العصر، وسقوط القيم، وشهادة وفاة العدالة الدولية. من لا يسمع أنين الجوعى اليوم، سيسمع غدًا هدير اللعنة القادمة من التاريخ… ومن السماء.